“هُوشَعنا”… “اصلُبهُ، اصلُبهُ” «متفرقات
“هُوشَعنا”، أي، يا ربّ تعال وخلّصنا، “هُوشَعنا” صيحات صادقةٌ من أفواه الناس في أورشليم (مدينة السلام)، تهتف ليسوع (معناه الله يخلّص)، تنادي بأعلى أصواتها: “هوشعنا! مباركٌ الآتي باسم الربّ. ملك إسرائيل” (يو 12: 13).
دخل السيّد المسيح مدينة أورشليم كملكٍ. تجَمهَرَ من حوله الشعب، حاملاً سُعف النخل والزيتون. “لا تخافي يا ابنة صهيون، هوذا ملكٌ يأتيك راكبًا جحشًا ابن أتان” (يو 12: 14). هذا الشعب المظلوم والمُحبط، القابع في القهر، تحت الاحتلال الغريب، رأى في يسوع المسيح الآتي، رجاءً للتخلّص من نير الحكم المُستبد، الظالم والفاسد من خلال تظاهره وفرحه وآماله.
نعم، رأى الشعب بيسوع “الآتي باسم الربّ، ملك إسرائيل”. واعتبره “داود” آخر. ملكًا جديدًا قادرًا (بعد أن شَهِدَ الأعاجيب وقيامة الأموات من القبور (ألِعازر)، على طرد المحتلّ والغريب وتسلّم زمام الحُكم في إسرائيل. ملكًا أعادَ إلى الشعب كرامته وحقوقه محقّقًا بذلك السلام والمساواة والعدالة.
رأى يسوع المسيح المشهد فترك الجموع تعبّر بعفويّةٍ وفرحٍ وبساطة على رجاء الوعد، الذي كان للملك داود. كان الشعب ينتظر هذا الوقت المغمور بالرّجاء، الذي يعبّر عن كلّ طموحاته وآماله. اعتبر الشعب أنّ يسوع ملكه، لأنّه أتى ليعزّيه، ويفتقده ويخلّصه. “هوذا ملكٌ يأتيكِ صدّيقًا مخلّصًا وديعًا…” (زك 9: 9). لقد أتى المسيح ليحقّق مواعيد الله التي تكلّم عنها الأنبياء. نعم، إنّ مملكته “ليست من هذا العالم” (يو 18: 36).
إنّ تلك الصيحات “هُوشَعنا” أي يا ربّ تعال وخلّصنا، ما هي إلاّ إعلان إيمانيّ بالمسيح الملك الذي معه يتمّم خلاص الله لشعبه. هذه الصيحات ستأخذ أبعادها الحقيقيّة في الأيّام الآتية، مع موت يسوع وقيامته، ليغفر خطيئة الناس أجمعين. ليؤكّد لهم عطيّة القيامة من الموت للمشاركة في الحياة الأبديّة.
هكذا ستنتصر البشريّة المتألّمة والخاطئة بيسوع، على العبوديّة والضعف البشريّ والخطيئة والذلّ والهوان وحتّى الموت. “أنا هو القيامة والحياة. مَن آمن بي وإن مات فسيحيا. وكلّ مَن كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد” (يو 11: 25-26). نعم، يسوع الملك، سيفتدي الشعب كلّه مع أنّ هذا الشعب عينه الذي استقبله ملكًا، طالب فيما بعد بصلبه وموته. إنّها المفارقة.
نعم، الله الآب الذي خلّص شعبه على يد موسى من العبوديّة وقادهم إلى أرض الميعاد، أي أرض الحرّيّة، هو نفسه سيخلّص البشريّة بأسرها من خطاياها. بفضل رحمته وإرسال ابنه الوحيد إلى العالم، ليخلّص الإنسان ويحرّره ويُعيده إلى مصاف أبناء الله.
لم يُدرك هذا الشعب حقيقة مَلِكِهِ وهدف رسالته الخلاصيّة. استقبله البارحة كملك، واليوم يطالب بصلبه. يا لها من فداحة… نعم، يسوع المسيح هو ملك وسط الهتافات “هُوشَعنا”، وملك هو، وسط الصراخ “اصلُبهُ، اصلُبهُ! “سيعطيه الربّ الإله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء” (لو 1: 32-33).
هل أدركنا ملكيّة يسوع؟ أم أنّنا نتصرّف أحيانًا أو غالبًا مثل هذا الشعب، الذي لم يفهم ولم يدرك حبّ الله له. لا بل، حاول الاستغلال والتنكّر، لملكوت الله ومملكته السماويّة، التي تهبُ الحياة والتحرّر والعدل والمحبّة. هل نعترف ليسوع بهذه المُلكيّة علينا، إن كان في السرّاء (هُوشَعنا) أم في الضرّاء (اصلُبهُ)؟
كم مرّةٍ نحن أيضًا نقول “اصلُبهُ”، بعد أن نكون قد نادينا به ملكًا وهتفنا “هُوشَعنا”؟ أَلَم نحوّل نحن أيضًا، أغصان النخل والزيتون إلى إكليل شوكٍ ومسامير؟ كم مرّةٍ، نتقلّب بمواقفنا ومبادئنا وشعاراتنا وكلامنا؟ كم نغوص في نكران الجميل، وعدم الوفاء والخيانة والتخلّي عن الله، من أجل حُفنةٍ من الدّراهم؟ كم نحن، نبتعد عن نور الله والحقيقة والعدالة؟ أوليسَ هذا كلّه من أجل نزواتنا، وتعلّقنا بالماديّات، والدخول في عالم العنف والإقصاء والاستقواء؟ وأيضًا بسبب جهلنا وفقرنا الروحيّ؟
دخل يسوع أورشليم، فدخل في مجده. لقد أتت الساعة. ساعة التضحية التي يقوم بها يسوع على الصليب. نعم، مجد يسوع يصل إلى تمام غايته عندما يُرفع عن هذه الأرض ويشدّ إليه جميع أبناء البشر “وأنا إذا رُفعتُ عن الأرض جذبتُ إليَّ الناس أجمعين” (يو 12: 32).
كم مرّةٍ نفضّل مجد الناس على مجد الله؟ نعم، إنّ أحد الشعانين هو مدخلٌ إلى أسبوع الآلام ومن ثمّ الوصول إلى القيامة. نؤكّد أنّ عيد الشعانين هو عيد الاحتفال بالإيمان وإعلانه، أي الإيمان بيسوع المسيح ملكًا ورسولاً. إنّه مرسلٌ من عند الله الآب، وابنٌ ينطق بما أوصاه به الآب، ومخلّصٌ هو جاء يخلّص الإنسان “فتجثو لاسمه كلّ ركبةٍ ممّا في السموات وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف كلّ لسانٍ بأنّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الآب” (فيل 2: 10-11). فليحرّكنا روحه القدّوس، وليقدنا نحو دربه، درب الخلاص والحياة والنصر والفرح والتواضع…
نهتف لكَ يا ملِكَنا ومخلِّصنا. علّمتنا وأعطيتنا معنىً آخرَ للسلطة وطريقًا آخرَ للمجد. زِدنا تواضعًا ووداعةً. صالحنا مع ذواتنا ومع الآخرين. وليكن قلبنا مثل قلب أطفالٍ يفرحون يصيحون لأيّام الفرح والرجاء. إنّهم فسحة تسبيح وتمجيد وفرح. إنّهم أصحاب القلوب النقيّة، التي تعبّر عن البراءة والعفويّة والمسامحة والمحبّة “بأفواه الأطفال والرضّع أسّست لكَ تسبيحًا” (مز 8: 2 ومتى 21: 16).
دعنا أيّها الملك المخلّص، أن نعيّدَ لكَ هذا العيد بفرحٍ وابتهاجٍ إلهيَّين، ونحن خاشعون أمام تواضعكَ وامّحائكَ وحبّكَ الكبير والعميق لأجلنا. بارك أطفالنا. أعطهم غدًا أفضل، أنعم عليهم كلّ بركةِ حبٍّ وفرحٍ وسعادةٍ وطمأنينةٍ. “دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأنّ لمثل هؤلاء ملكوت السّماوات” (متى 19: 14).
يا ربّ هبنا سلامكَ الذي وهبته للعالم. أَعِد إلى أورشليم السلام الحقيقيّ ليعمَّ البشريّة جمعاء “إفرحي وتهلّلي بكلّ قلبكِ يا بنتَ أورشليم، فقد ألغى الربُّ الحُكمَ عليكِ وأبعدَ عدوَّكِ… في وَسَطِكِ ملكُ إسرائيل الربّ، فلا ترينَ شرًّا من بعدُ. لا تخافي يا صهيون… في وسَطِكِ الربّ … الذي يخلّص ويسَرُّ بكِ فرحًا، ويُجدّدُكِ بمحبّته، ويبتهج بكِ بالتهليل، كما في أيّام العيد” (نبوءة صفنيا 3: 14-77).
الأب نجيب بعقليني.