سيرة حياته «مار أنطونيوس
- حياته ودعوته
- أنطونيوس في البرِّيَّة
- أنطونيوس والقدِّيس پولا
- أنطونيوس والمجرِّب
- أنطونيوس والعلم
- أنطونيوس وتلاميذه
- إنتشار القدِّيس أنطونيوس في الشّرق عامَّة وفي لبنان خاصَّة
- وفاة القدِّيس أنطونيوس ووصيَّته الأخيرة
1. حياته ودعوته
وُلِدَ أنطونيوس في مدينة "كوما"، في صعيد مصر نحو سنة 251 مسيحيَّة، على عهد داسيوس الملك، من والدَين مسيحيَّين تقيَّين من أشراف البلد وأغنيائها. قبطيُّ الحسب والنـَّسب. تعـلـَّم قواعد الإيمان والدِّين والأخلاق، وطبَّقها في حياته منذ الصِّغر، وكان محبًّا للعزلة والصَّمت والصَّلاة، بعيدًا عن الطـَّياشة والكلام الباطل والعِشرات الرَّديئة.
لم يتعلـَّم أنطونيوس لا القراءة ولا الكتابة. ولكنَّ الله قد وهبه ذكاءً طبيعيًّا، بنوع أنـَّه كان يحفظ عن ظهر قلب كلَّ ما كان يُتلى عليه من نصوص الكتب المقدَّسة والآباء القدِّيسين وأخبار النـُّسَّاك الكـُثر في أيَّامه، العائشين في براري الصَّعيد.
وبينما كان يومًا في الكنيسة لحضور القدَّاس الإلهيّ والإشتراك فيه، سمع يسوع يقول في الإنجيل لذاك الشَّابّ الغنيّ:
"إذا شئتَ أن تكون كاملاً، فاذهب وبعْ ما تملكه وأعطِه للمساكين، فيكون لك كنزٌ في السَّماء وتعال اتبعني... ومَن ترك من أجل اسمي بيتـًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أُمًّا أو بنين أو حقولاً ينال عوَض الواحد مئة ويرث الحياة الأبديَّة". (متى 19: 21)
وكانت البداية... أثـَّر هذا الكلام في أنطونيوس، فأخذ يتأمَّله مليًّا وكأنـَّه موجَّه إليه خصوصًا. فحرَّكت نعمة الله قلبه وعـلـَّل النـَّفس بترك العالم والإقتداء بالمسيح الفقير وبمَن سبقوه إلى البرِّيَّة.
في هذه الفترة القلقة والمصيريَّة من حياته، توفـّي والديه. فأضنى قلبه هذا الفراق المؤلم والحدث المفجع، فازداد كرهًا واحتقارًا للعالم وأباطيله. فعزم نهائيًّا على ترك العالم الزَّائل وله من العمر ثمانية عشرة سنة، مخلـِّفـًا وراءه أختـًا وحيدة وثروة طائلة.
فأعطى أُخته حصَّتها من الميراث الوالديّ ووزَّع كلَّ ما تبقـَّى له على المساكين وعلى بيوت الإحسان، كما قال السَّيِّد المسيح في الإنجيل، وذهب إلى البَرّ القفر لا يملك شيئًا من حطام الدُّنيا، متـَّكلاً على العناية الإلهيَّة وحدها.
2. أنطونيوس في البرِّيَّة
علِمَ أنطونيوس أنَّ الله لا يُدرَك لا في الضَّجَّة ولا في الضَّوضاء، بل في الخلوة والصَّمت والتأمُّل، لأنـَّه روح. فترك الدُّنيا وأمجادها وخيراتها الزَّائلة وذهب إلى البرِّيَّة، تاركـًا باب بيته مفتوحًا، لا يحمل معه سوى زوَّادة لبضعة أيَّام، قد تخلـَّى عنها أيضًا في الطـَّريق، متذكـِّرًا آية الإنجيل:
"لا تهتمُّوا للغد لأنَّ الغدّ يهتمّ بشأنه ويكفي كلّ يوم شرِّه". (متى 6: 34)
بحسب الأب سيداروس؛ "إنَّ البرِّيَّة مع أنطونيوس تجاوزت حدودها الجغرافيَّة فأصبحت موضعًا للقاء الله ومقاومة الَشِّرِّير في آن، والإنفصال عن البشر، وهي ترمز إلى التـَّرحال من دون ارتباط بأرض أو ممتلكات ولا اهتمام بالجسد بل بمقاومة الرَّذائل، وإلى الإستقرار في مكان معيَّن في سبيل اكتساب فضائل معيَّنة تقاوم النـَّزعة الأنانيَّة".
إنَّ حياة أنطونيوس في البرِّيَّة، ظهرت من خلال مراحل عديدة؛ فهو سكن في بادئ الأمر، خارج قريته ولكن بالقرب منها "ليشارك أهلها بمشاكلهم ويسترشد لدى النـُّسَّاك القاطنين بجوارها". وانتقل بعدها إلى القبور، إلى أن ذهب أخيرًا إلى عمق البرِّيَّة، في الجبال، غير أنـَّه من الجدير بالذِّكر أنَّ أنطونيوس بالرُّغم من تنسُّكه واعتزاله عن البشر، عاد مرَّتين إلى المدينة، ولكن بسبب حدثين كنسيَّين، الأوَّل وهو إشتداد الإضطهادات عن يد الإمبراطور مكسيمانس (250- 310)، ليساعد المسيحيِّين آنذاك؛ والـثـَّاني وهو احتداد هرطقة آريوس (256- 336) ليقاومها بحضوره في وسط المؤمنين.
وكان أنطونيوس عالمًا بوجود نسُّاك في البرِّيَّة، فراح يبحث عن أب روحيّ ومرشد عالم بتدريب النـُّفوس وعمل بالمثل القائل: "إسأل خبيرًا ولا تسأل حكيمًا".
صلاة أنطونيوس كانت تدوم حتى شروق الشَّمس، فكان يستند إلى عكـَّاز علـَّق في أعلاه جرسًا صغيرًا، حتى إذا أتاه شيطان النـُّعاس ليلاً، تتحرَّك العصا ويدقّ الجرس، فيعود أنطونيوس إلى وعيه السَّابق، فكان يختـطـف من الـنـَّوم قليلاً، متذكـِّرًا قول الرَّبّ يسوع: "إسهروا وصلـُّوا لئلاَّ تدخلوا في تجربة". (متى 26/ 41)
وإذا كان أنطونيوس، قد دُعي أوَّل النـُّسَّاك وأبا الرُّهبان، فهذا لا يعني ويجب ألّا يُفهَم أنـَّه لم يكن من نسَّاك قبله. فقد حقـَّق العلماء المؤرِّخون أنَّ الحياة النـُّسكيَّة كانت قبل المسيح وبعده، وأنَّ مصر كانت مهد الحياة النـُّسكيَّة بإجماع المؤرِّخين قبل أنطونيوس. وكان لكلّ من هؤلاء النـُّسَّاك صومعة أو كوخ يُحيون فيه اللـَّيالي والأيَّام في التأمُّلات الطـَّويلة والتـَّراتيل الرُّوحيَّة، مواظبين على إماتة الجسد بالسَّهر والوقوف الطـَّويل، وإماتة الحنجرة بالصَّوم والعطش.
ولم يزل خلف هؤلاء النـُّسَّاك يأخذ عن السَّلف هذه الطـَّريقة إلى أيَّام القدِّيس أنطونيوس الذي جمع شملهم ونظـَّم أحوالهم ووضع لهم القوانين وألبسهم الإسكيم الملائكيّ الذي تسلـَّمه من الرَّبّ. فلـُقـِّبوا رُهبانـًا ولـُقـِّب بأبي الرُّهبان لا بل إنَّ أنطونيوس أكثر بكثير كما قال عنه أحدهم:
"هذا الـنـَّاسك الرَّجل الذي رأى السَّماء والجحيم، الذي حكم الكنيسة من أعالي الصُّخور. هذا القدِّيس ثبَّت إيمان الشُّهداء أيَّام المحاكمات القاسية. هذا المعلـِّم الذي سقطت أمامه قوَّة حجَّة الهراطقة".
إنَّ القدِّيس أتناسيوس وهو أحد تلاميذ أنطونيوس، كان له الفضل الكبير في نشر سيرة هذا القدِّيس، من مولده، حياته إلى مماته وسائر الأحداث التي عاشها أنطونيوس، وعلى سبيل المثال، تذكر هذه الحادثة:
أثناء مسيرته في البرِّيَّة، وصل إلى شاطئ نهر. وفي يوم، نزلت امرأة من العرب تستحمّ هي وجواريها في النـَّهر. لمَّا رآها حوَّل نظره عنها، ظنـًّا أنـَّها ستترك النـَّهر، ولكن بقيت فيه، فقال لها القدِّيس أنطونيوس: لما تستحمِّين هنا وأنا رجل راهب. أجابته: يا إنسان لو كنت راهبًا لسكنتَ البرِّيَّة الدَّاخليَّة لأنَّ هذا المكان لا يصلح مسكن الرُّهبان.
قال القدِّيس: "ليس هذا من المرأة بل ملاك الرَّبّ يوبِّخني".
لم تكن النـِّعم والمواهب الفائقة الطـَّبيعة لتحمي أنطونيوس من تجربة المجد الباطل، فراح يحارب هذه التـَّجربة الخطيرة على النـَّفس بكلّ ما أُوتيَ من شجاعة وثبات. وفكـَّر بإلهام إلهي أن يفتـِّش متوغـِّلاً في البرِّيَّة عن ناسك يفوقه فضلاً وفضيلة يسترشده.
وبعد مسيرة يومين، رأى باب كهف ٍ فيه ناسك، فقرع بابه وسأل أن يفتح له. فبعد تردُّد كثير وجدال طويل، فتح له الـنـَّاسك، فوجد أنطونيوس أمامه شيخًا جليلاً مهيبًا، يطفح وجهه بالـنـُّور الإلهيّ والحبور. هو القدِّيس پولا أفضل السَّائحين. فمَن هو هذا القدِّيس؟
وُلِد پولا في مدينة "طِيبَة" في الصَّعيد الأسفل سنة 229. وكان والداه تقيَّين غنيَّين، قد توفـِّيا وله من العمر خمس عشرة سنة.
درس مبادئ الدِّين والأخلاق على والديه وتعلـَّم القراءة والكتابة في مدرسة بلدته "الطـِّيبَة". فصار عالمًا بآداب اللـُّغتين اليونانيَّة والمصريَّة، وغنيًّا بفضائل التـَّقوى المسيحيَّة والوداعة والحشمة وخوف الله التي أخذها عن والديه. ولمَّا أثار داسيوس الملك سنة 249 إضطهادًا شديدًا على المسيحيِّين، وعلِمَ پولا بهذه المناسبة أنَّ صهره زوج شقيقته يريد أن يسلـِّمَه ليستوليّ على ثروته، شقَّ عليه ذلك وكره الدُّنيا. فتركها وهرب إلى البرِّيَّة سنة 250، وله من العمر عشرون سنة. وسكن مغارة بقربها عين ماء، يشرب منها، ونخلة يستظلّ بظلـِّها ويقتات من أثمارها ويكتسي من أوراقها. وقضى ثلاثـًا وعشرين سنة يأكل من أثمار النـَّخلة، عائشًا بالصَّلاة والتأمُّل والتـَّقشُّفات الشَّاقـَّة، مستغرقـًا بالله، إلى أن صار الله يرسل له كلّ يوم بنصف رغيف بفم غراب كما كان يفعل مع إيليَّا النـَّبيّ.
ولمَّا زاره القدِّيس أنطونيوس، ابتسم كلٌّ للآخر وتبادلا السَّلام. ولم يكن بينهما سابق معرفة. وبعد أن تعارفا وتحدَّثا طويلاً، مجَّدا الله سويَّة وصلـَّيا. وفي النـِّهاية، وقد حان وقت الطـَّعام، الوجبة الوحيدة في اليوم، جاء الغراب هذه المرَّة وفي فمه رغيف كامل. فسُرَّ پولا وقال لأنطونيوس:"أُنظر يا أخي وتأمَّل عناية الله. منذ سنوات عديدة وهو يرسل لي من فيض جوده نصف رغيف. أمَّا اليوم، لأجلك يا أبانا، قد ضاعف يسوع طعام عبده. فاندهش أنطونيوس جدًّا وتأكـَّد أنَّ پولا يفوقه فضيلة وقداسة.
وقد اعتراه الخجل ممَّا خامره من روح الكبرياء. وبعد أن شكرَ الـنـَّاسكان العناية الإلهيَّة لاعتنائها بهما، جلسا على حافـَّة الينبوع للأكل. وشرع كلٌّ منهما يكلـِّف الآخر بكسر الرَّغيف. فكان پولا يحجم عن ذلك قائلاً: "أنت ضيفي، فعليَّ أن أُكرم وفادتك وأحفظ حقوق الضِّيافة". وأخذ أنطونيوس بدوره يقول: "أنت ابي، فقد تقدَّمتني في العمر والزُّهد". ولبثا على هذا النـِّزاع الإحتراميّ المتبادل وقـتـًا غير قليل. أخيرًا، إتـَّفقا على أن يُمسِك كلٌّ منهما بطرف الرَّغيف وكلٌّ يستولي على قسمه. ففعلا ذلك وأخذا يتناولان طعامهما القشف بكلّ لذَّة وشهيَّة وهما يتحادثان عن المواهب والنـِّعم التي نالاها من الله مدَّة حياتهما الطـَّويلة.
وبعد وجبة الطـَّعام والأحاديث الرُّوحيَّة قاما للصَّلاة مجدَّدًا ومكثا حتى الصَّباح. فقال القدِّيس پولا إلى ضيفه: "قد أعلمني الرَّبّ منذ زمن بعيد أنـَّك قد نسكت نسكـًا صادقـًا واستوطنتَ البراري. ووعدني أن أراك قبل موتي. وها قد دنا أجَلي والعناية الإلهيَّة لم تأتِ بك إليَّ أيُّها الأخ الحبيب إلاَّ ولكي تدفن هذا الجسد الشَّقيّ وتردّ التـُّراب إلى التـُّراب. فاذهب حالاً إلى صومعتك وأحضِر الـثـَّوب الذي وَهبك إيَّاه القدِّيس أتناسيوس وعُدّ بسرعة وكفـِّن به جسدي". فدُهِش أنطونيوس لأنـَّه تأكـَّد أنَّ الله وحده أوحى لپولا بهبة أتناسيوس. فقام القدِّيس أنطونيوس لساعته وعانق پولا مودِّعًا بكلّ وَجْد واحترام، آخذًا بركته وعاد إلى صومعته.
ولمَّا كان أنطونيوس في الطـَّريق عائدًا بالـثـَّوب، رأى نفس القدِّيس پولا صاعدًة إلى السَّماء تحيط بها الملائكة والرُّسل. فرغمًا عن هذا المشهد المفرح، لم يتمالك أنطونيوس نفسه وذرف الدُّموع متذكـِّرًا الخسارة الرُّوحيَّة التي لحقت به بوفاة معلـِّمه، لأنـَّه كان يأمل ربحًا روحيًّا جزيلاً من معاشرته. ولمَّا وصل أنطونيوس إلى المغارة والحزن يملأ قلبه، رأى القدِّيس پولا ميتـًا مبسوط اليدين ووجهه يطفح حبورًا ويتلألأ نورًا. فجثا بقربه يصلـِّي. ثمَّ اهتمَّ بدفنه. فكفـَّنه بثوب القدِّيس أثناسيوس وأخرجه من المغارة. ولمَّا لم يكن من وسائل لحفر القبر، فإذا بأسدَين قد أرسلهما الله. وبعد أن اقتربا من جسد القدِّيس پولا وأظهرا احترامهما له، حفرَا الأرض بأظافرهما حفرة كافية. فدفن أنطونيوس جسد پولا مصلـِّيًا باكيًا. ثمَّ عاد إلى صومعته. وكانت وفاة القدِّيس پولا سنة 342 بعمر يناهز 113 سنة؛ وكان قد قضى منها في البرِّيَّة نحو 93 سنة في عبادة الله وتمجيده وممارسة التـَّقشُّفات والإماتات الضَّيقة بكلّ أنواعها.
وقد احتفظ القدِّيس أنطونيوس باعتناء بثوب القدِّيس پولا المنسوج من ورق النـَّخل مدَّة حياته كلـِّها. ولم يلبسه إلاَّ في الأعياد الاحتفاليَّة كعيد الفصح والعنصرة، ذكرًا للقدِّيس العظيم پولا.
عُرِفَ مار أنطونيوس بصراعه الكبير مع الشَّياطين التي جرَّبته بكافـَّة أنواع المغريات، كالطـَّعام والمال والجنس والمجد الباطل والكبرياء والعودة إلى الماضي والخوف من المستقبل...
كان أنطونيوس مثالاً للجهاد والتـَّقوى والفضيلة والإماتات الشَّاقـَّة، يلقي في قلوب العباد رجاءً وطيدًا بالنـَّصر، رغم كلّ أسباب الضُّعف والتـَّجارب. لهذا السَّبب أحبَّه الـنـَّاس وأبغضه عدوّ الخير- الشَّيطان، الذي أفرغ كنانة جهده يحاربه ليلاً نهارًا ليُثبط عزمه.
إلاَّ أنَّ أنطونيوس فما كان لينخدع فيتراجع عن عزمه ويتخاذل. بل بالعكس لقد أطال في الصَّلاة وبالغ في التـَّقشُّفات والإماتات والأسهار والأصوام والتأمُّلات الرُّوحيَّة، متذكـِّرًا كلمة الرَّسول بولس: "إلبسوا سلاح الله لتستطيعوا مقاومة مكايد إبليس، فإنَّ محاربتكم ليست مع لحم ودم بل ضدَّ الرِّئاسات والسَّلاطين ووُلاة العالم،عالم الظـُّلمة والأرواح الشِّرِّيرة في السَّماويَّات". ( أفسس 6/ 11- 12)
لمَا رأى الشَّيطان فشل مساعيه الشّرِّيرة، صوَّب إلى أنطونيوس سهام الأفكار السَّمجة والصُّور الخلاعيَّة، وأضرم نار الشَّهوة في قلبه. أمَّا القدِّيس فكان يصدُّها بترس الإيمان ويطفئها بالأصوام والصَّلوات، متذكـِّرًا كلمة الإنجيل:
"إنَّ هذا الرُّوح لا يُطرَد إلاَّ بالصَّوم والصَّلاة". (مرقس9/ 28، متى 17/ 20)
وفوق كلّ ذلك، كان يطردها بدافع المحبَّة لله وإشارة الصَّليب. فما كانت هذه التـَّجارب إلاَّ لتزيد نفسه نقاوة وبهاءً، طهارة وبؤسًا. ولمَّا رأى المجرِّب أنـَّه لم يظفر بأنطونيوس عن طريق الأفكار الدَّنسة والأشباح السَّمجة المخُيفة، عاد يحاربه برذيلة الكبرياء قائلاً:
"لقد أغوَيتُ كثيرين من الـنـَّاس ومن الشَّباب والشَّابَّات، أمَّا أنتَ فظفرتَ بي على مثال القدِّيسين الذين غلبوني".
فلمَّا سمع أنطونيوس هذا الكلام المغري، إنتبه للخديعة فشكر الله وقال للشَّيطان:
"لستُ أنا الذي ظفرتُ بك، بل نعمة الله السَّاكنة فيَّ".
"الرَّبّ نصيري ومصيري، فما أحراني بازدراء أعدائي".
فما إن تلا أنطونيوس هذه الآية من المزامير حتى توارى الشَّبح الأسود الخبيث يتعثـّر بأذياله. فازداد أنطونيوس فرحًا وقوَّة وشجاعة، محقـِّقـًا بذلك آية الرَّسول بولس:
"إنَّ الذين يحبُّون الله تؤول جميع الأشياء إلى خيرهم". ( رومية 8/ 28)
بعد هذا الإنتصار، لم ينم أنطونيوس على حرير ناعم بل ضاعف جهاده وإماتاته وصلواته، يقمع جسده، لأنـَّه كان عالمًا أنَّ عدوَّه، بدوره، لا ينام. بل يعدّ العدَّة لهجوم أقوى وأعنف، متذكـِّرًا كلمة القدِّيس بطرس في رسالته الأُولى:
"إنَّ إبليس خصمكم، كالأسد الزَّائر، يرود حواليكم، في طلب فريسة له. فدافِعوا راسخين في الإيمان، عالمين أنَّ إخوتكم المنتشرين في العالم يعانون الآلام نفسها".
عِيلَ صبر الشَّيطان وخاف أن تصبح هذه البراري عامرة بالمؤمنين والمقتدين بالقدِّيس. فاستدعى عددًا كبيرًا من أعوانه وتراموا على القدِّيس يسومونه لطمًا شديدًا ويوسعونه عذابًا أليمًا حتى أمسى جسده مجرَّحًا مهشَّمًا وتركوه مضرجًا بدمائه بين حيٍّ وميت.
قال القدِّيس يصف هذه المعركة العنيفة: "أنـَّه تألـَّم آلاماً تفوق كلّ تصوُّر البشر".
لم يَخُر عزمه. بل كان يهتف من حين ٍ إلى آخر بأعلى صوته مخاطبًا إبليس وجنوده: "ها أنا أنطونيوس لم أزل هنا، لا أخشى النـِّزال معكم، إبتلوني بما استطعتم من عذاب، فلا أحد يقدر أن يفصلني عن محبَّة المسيح". وكان يرتـِّل، بغبطة المنتصر، هذه الآية من المزمور: "وإن اصطفَّ عليَّ عسكر فلا يخاف قلبي لأنـَّك معي، وإن قام عليَّ قتال ففي ذلك ثقتي" (26/ 33).
وعندما شعر إبليس باستخفاف أنطونيوس به وبقوَّاته، احتدم غيظـًا وخاطب أعوانه قائلاً: "أُنظروا كيف أنَّ هذا الشَّابّ قد هزئ بكلّ حَيَلنا ونجا من شباكنا غير مُبال ٍ بنا، حتى بلغت به الجسارة والوقاحة إلى أن يستدعيَنا للنـِّزال مرَّة أُخرى. فهبُّوا بنا نحمل عليه ببأس أشدّ". فضجُّوا ضجَّة عظيمة إرتجَّت لها جوار المغارة وجدرانها ودخلوا إليه بأعداد كبيرة يتظاهرون بأشكال حيوانات مفترسة مريعة وأشباه شتـَّى من أُنس وجنس. وأنطونيوس ثابت رغم شدَّة آلامه، لا يخاف عدوًّا جبانـًا، إشارة صليب تطرده ولفظ إسم يسوع يدحره، ولا يهاب الموت في سبيل مَن مات لأجله ومَن ملأ قلبه وامتلك عليه كل كيانه.
رأى يسوع أنَّ خادمه الأمين جاهد جهاد الأبطال في معركة التـَّجارب، فجاء إلى نصرته. وإذا بنور سماويّ ساطع من أعلى المغارة قد نزل واستقرَّ على القدِّيس. فخُزِيَ الشَّيطان وهرب مولولاً. فعرف القدِّيس أنَّ يسوع قد أتى إلى نصرته، فصرخ من أعماق قلبه: "ربِّي وإلهي؛ أين كنتَ؛ لماذا لم تأتِ لتساعدني وتضمِّد جراحي؟".
فسمع صوتـًا يقول له: "لقد كنتُ هنا يا أنطونيوس حاضرًا أنظر إلى نهاية جهادك. قد حاربتَ ببسالة وانتصرتَ على عدوِّك. فإنـِّي أعضدك بعوني دائمًا وأُذيع اسمك في المسكونة كلـِّها". وهذا ما صار بالحقيقة، لأنَّ اسم أنطونيوس قد انتشر في الدُّنيا وعجائبه ملأت الكنيسة والعالم.
لقد تعزَّى أنطونيوس لدى سماعه هذه الكلمات الحلوة من فم المسيح؛ وراح قلبه يخفق فرحًا وحبورًا. فنسيَ كلّ آلامه وأوجاعه والتأمت جراحه وازدادت قواه حميَّة وخرَّ على ركبتيه ساجدًا شاكرًا الله على نعمة الثـَّبات ونعمة الانتصار في معركة التـَّجارب الصَّعبة والمصيريَّة. فنشُط َ إلى الصَّلاة بأكثر حرارة وتقوى وبأكثر إيمان ومحبَّة وثبات؛ كأنـِّي به، كلـَّما ازدادت عليه التـَّجارب والمصاعب، أطال في الصَّلاة وازداد شجاعة ومحبَّة، ثباتـًا وقداسة.
جرَّب الشِّرِّير أنطونيوس، مثلما جرَّب الشَّعب العبرانيّ ويسوع نفسه. يقول الأب سيداروس: "يظلّ شخص يسوع المثال الأعلى والنـَّموذج الأسمى لمواجهة الشِّرِّير".
إنَّ يسوع المسيح القائم من الموت، غلب الشِّرِّير الذي كان يتظاهر بالغلبة، لذلك استطاع أن يقول:
"ولكن ثقوا، إنـِّي قد غلبتُ العالم" (يو16/ 33).
"إنَّ سيِّد هذا العالم آتٍ وليس له يد عليَّ" (يو14/ 30).
"أليوم دينونة هذا العالم، اليوم يُطرَد سيِّد هذا العالم إلى الخارج. وأنا، إذا رُفِعتُ من الأرض جذبتُ إليَّ الـنـَّاس أجمعين" (يو12/ 31- 32).
إنَّ يسوع المسيح قد جُرِّبَ في البرِّيَّة، التي أصبحت رمزًا إلى المعركة بين الشِّرِّير والإنسان، وأصبحت موضعًا رمزيًّا لسُكنى الشِّرِّير. لذلك ذهب أنطونيوس إلى البرِّيَّة، فكأنَّ به يذهب لمواجهته في عقر داره.
لم يتعلـَّم أنطونيوس في كتاب المدرسة، بل كان كتابه الدَّائم الطـَّبيعة. ولمَّا كان يرى بسليم فطرته، أنَّ حياته لتسلم من خطر إذا تعلـَّم قراءة الكتب التي يُدَسّ فيها كثير من الأباطيل، آثر أن يكون أُمِّيًّا يعرف أن يحبّ الله ويتحدَّث معه بسذاجة الطـِّفل، مكتفيًا بلغة المسيح وعلمه، على أن يكون فيلسوفـًا، قال:
"تعلـَّم الإنسان كثيرًا أو لم يتعلـَّم شيئًا، عمَّر طويلاً أو قصيرًا، لا فرق في ذلك، المهمّ هو أن يهتمّ الإنسان بأن يُرضي الله ويبلغ الغاية الأخيرة ويرث الملكوت السَّماويّ".
على أنَّ الله أعاضه عمَّا فاته من العلم البشريّ بذكاء فطري وبنعمة العلم والفهم بمجرَّد السَّماع والنـَّظر والتأمُّل في الطـَّبيعة وأسرارها، ما فاق به علماء عصره. ومن أقواله الحلوة: "العالم عند الذين لا يرَونَ فيه إلاَّ الله كتاب كبير يجعلهم سريعًا علماء في علم القدِّيسين".
قال القدِّيس أُغوسطينوس: "إنَّ أنطونيوس الرَّاهب المصريّ الذي كان رجلاً قدِّيسًا كاملاً، قد تعلـَّم عن ظهر قلب كلّ الكتب المقدَّسة لمجرَّد سماعه الآخرين يقرأونها، وقد فهم كنه معانيها بالتأمُّل والإفتكار فهمًا مليًّا".
وأخبر عنه معاصره القدِّيس أتناسيوس، قال: "سأله فيلسوف ذات يوم إذا كان يستولي عليه الضَّجر لعدم السَّلوى التي يُدركها الآخرون بمطالعة الكتب؟" فأجابه القدِّيس:" إنَّ لي بالطـَّبيعة خير كتاب". واستهزأ به مرَّة أُخرى لجهله العلوم.
فسأله أنطونيوس ببساطة: "هل العلوم أوجدت العقل أم هو أوجدها؟" فأجاب الفيلسوف: "إنَّ العقل أوجدها".
فقال القدِّيس: "إذًا يكفيني العقل؛ فما حاجتي إلى العلم". وتابع قائلاً: "يخوض اليونان غمار البحار سعيًا وراء العلوم، ناشدين في نواح ٍ شاسعة غريبة أساتذة يتخرَّجون عليهم في طلب المعارف الباطلة. أمَّا نحن، فلا حاجة لنا أن نذهب إلى أماكن بعيدة لأنَّ ملكوت الله في كلّ مكان وفي داخلنا".
نعم، إنَّ عصرنا لا يتقبَّل بسهولة هذا المنطق. ولكن للقدِّيسين منطق آخر أسمى وأرفع يفوق منطق البشر. إنَّ تلاميذ المسيح كانوا أُمِّيِّين؛ فأفحموا بعلم الله فلاسفة الدُّنيا وعلماءها.
المسيح كان يعلـِّم بالأمثال وبالمثل قبل الكلام. هكذا أنطونيوس تتلمذ له عدد كبير من محبِّي الخلوة والصَّمت. فأخذ يدرِّب خطاهم الفتيَّة في طريق الكمال الإنجيليّ ويفرغ في قلوبهم وعقولهم وذاكرتهم ما جمعه هو من قلب الله في قلبه وعقله وذاكرته، نزولاً عند رغباتهم، قال:
"تقترحون عليَّ اقتراح الأبناء على أبيهم أن اُرشدكم في ما تعملون أو ما به ترتابون، فأُجيب:
"إنَّ التـَّجارب الطـَّويلة علـَّمتني" . فلا أحد منكم يتضجَّر، بل فليثبت في عزمه قائلاً: "الآنَ ابتدأت، متأمِّلاً أنَّ حياة الإنسان قصيرة جدًّا وليست شيئًا إزاء الأبديَّة".
لذلك، فالقدِّيس أنطونيوس يُدعى بكلّ حقّ منشئ الحياة الرُّهبانيَّة الجماعيَّة وأوَّل واضعِي القوانين الرُّهبانيَّة. قال القدِّيس أيرونيموس: "إنَّ القدِّيس أنطونيوس هو رئيس السِّيرة النـُّسكيَّة الرُّهبانيَّة وأوَّل مَن جمع عددًا من النـُّسَّاك ليرتـِّلوا تسابيح الرَّبّ معًا بأصوات الفرح والتـَّهليل". ومن أهم ما علـَّمه لتلاميذه:
أوَّلاً أهمِّيَّة الكتاب المقدَّس
قال: "الكتاب المقدَّس هو نور هادٍ وكاف ٍ لينير عقلنا ويقدِّس نفوسنا ويسدِّد خطايانا نحو البرّ والقداسة والسّعادة. وهو غذاء للنـَّفس وينبوع تجري منه مياه النـِّعمة للحياة الأبديَّة. كيف لا وهو كلام الله الذي قال أنا الطـَّريق والحقّ والحياة؛ وأنا الرَّاعي الصَّالح؛ تزول الدُّنيا وحرف واحد من الـنـَّاموس لا يزول". لهذا السَّبب كان الإقبال كبيرًا على مطالعة الكتاب المقدَّس الذي صار سمير النـُّسَّاك في البراري والمغذي والمعزِّي في القفار والطـَّبيب في الأوجاع وعربون السَّعادة في المجد الآتي. كم نحن اليوم بحاجة إلى مطالعة الكتاب المقدَّس لأنَّ لنا به الهداية ونموّ الحياة الرُّوحيَّة.
ثانيًا المحادثة الرُّوحيَّة
كانت العادة بين النـُّسَّاك، بفضل أنطونيوس، أن يتلاقوا ولو مرَّة في الأُسبوع أو الشَّهر للمذاكرة الرُّوحيَّة والصَّلاة. وكانوا يعلـِّقون عليها أهمِّيَّة كبرى للنـُّموّ في الحياة الرُّوحيَّة، حيث كلٌّ من النـُّسَّاك كان يدلي باختباره النـُّسكيّ وبمعلوماته عن النـُّموّ في حياة الرُّوح، وعن الحرب مع الشَّيطان وحِيَله وكيفيَّة الانتصار عليه. فكان الأكبر سنـًّا في النـُّسك يوجِّه في النـِّهاية كلمة تشجيع. فيعود كلٌّ إلى منسكه بعد أن يكونوا قد صلـُّوا سويَّة ومجَّدوا الله. وممَّا قاله القدِّيس أنطونيوس في هذا الصَّدد: "وللمحادثة الرُّوحيَّة فوائد جليلة وتعزيات عظيمة يعزِّي بها بعضنا بعضًا".
ثالـثـًا التـَّواضع
كان القدِّيس أنطونيوس يفتتح جميع إرشاداته بذكر فضيلة التـَّواضع وشدَّة لزومها للخلاص؛ "بدون التـَّواضع لا نستطيع أن ننجوَ من حِيَل الشَّيطان أوَّل المتكبِّرين. التـَّواضع هو السُّور المُكين الذي نحتمي به من سهام العدُّو الجهنـَّميّ؛ فإذا هُدِمَ السُّور أصبحنا هدفـًا لسهام الأعداء، وهو أساس كلّ الفضائل؛ فعليه يجب أن نرفع بناء الكمال".
وقال: "ونظرتُ يومًا فوجدتُ الشَّياطين يضعون الحبائل ويحفرون الحفائر على وجه الأرض... فحزنتُ جدًّا وقلت: يا ربّ، يا ربّ، مَن يخلص من أيدي هؤلاء؟ فأجابني الرَّبّ: المتواضع يخلص والمتكبِّر يقع". "المتظاهر بالتـَّواضع يشبه بيتـًا ذا منظر جميل وزينته تظهره للـنـَّاس كأنـَّه قصر فخم، قد حوى الحلى والحلل الثـَّمينة، مع أنَّ اللـُّصوص قد دخلوه وسرقوا منه كلـَّما يحتوي وتركوه خاليًا". فالتـَّواضع هو، بنظر أنطونيوس، عجب العجائب. يكفي أنـَّه فضيلة الرَّبّ يسوع. وكان لا يخجل أن يتعلـَّم من حَدِث السِّنّ وهو في سنّ الشَّيخوخة.
رابعًا الحكمة والفطنة
عرفنا أنَّ القدِّيس أنطونيوس كان أُمِّيًّا. غير أنَّ الله أعاضه عمَّا فاته من العلم البشريّ بنعمة مرشدة. فكان له من العلم والفهم بالتأمُّل، ما فاق به علماء عصره. وحصل القدِّيس أنطونيوس على هذه النـِّعم بما أفاضه الله على عقله وقلبه من الحكمة والفطنة. وممَّا قال في الفطنة: "إنـَّها سيِّدة جميع الفضائل". ولمَّا سُئِل يومًا عن الكمال المسيحيّ أجاب: "للبلوغ سريعًا إلى الكمال المسيحيّ إفتكر في أنـَّك تبدأ اليوم بخدمة الله. وافتكر في أنَّ هذا اليوم قد يكون الأخير من حياتك. إذا جرَّبك العدوّ فتذكـَّر أنَّ الشَّيطان لا يقدر البتـَّة أن ينتصر على الصَّلاة والصَّوم وعلى محبَّة يسوع الحارَّة".
خامسًا النـَّشاط والثـَّبات
خاف القدِّيس أنطونيوس من أن يأخذ تلاميذه التـَّواني والفتور والكسل في جهادهم، قال: "احذروا التـَّواني والفتور في عمل الخير؟ واحذروا المجد الباطل. فإنَّ كلّ ما نعمله لا يوازي مجد السَّماء"... "لنسِر وراء ما يقوِّم خطواتنا إلى السَّماء؛ غير ناظرين يمنة أو يسرة. ولنسِر مسرعين مستيقظين، ناظرين إلى الأمام في جهادنا؛ فلا يفوتنا عدل ولا شجاعة، لا قناعة ولا حكمة؛ متمسِّكين بالإيمان والرَّجاء والمحبَّة. لنسِر بنفس ظافرة على الغضب والحسد والشَّهوة وغير ذلك ممَّا يوقفها في سبيل جهادها، عملاً بقول الرَّسول:" إنـَّنا نموت من أجلك كلّ يوم وقد حسبنا كغنم للذَّبح" (رومية 8/ 36).
وتابع يقول: "أُناشدكم الله أن لا تنظروا إلاَّ إلى الغاية النـَّبيلة التي قصدتموها. لا تلتفتوا إلى الوراء كما فعلت امرأة لوط (تكوين 19/ 26)، واذكروا قول الرَّبّ: "مَن يضع يده على المحراث ويلتفت إلى ورائه لا يصلح لملكوت السَّماوات" ( لوقا9/ 62). وقال: "لا تظنـُّوا أنَّ الفضيلة وإدراك الكمال هما شيء خارج عنـَّا وصعب، بل كلّ شيء منوط بإرادتنا. بنعمة الله جلَّ جلاله. فقد غرست الطـَّبيعة في قلب كلّ إنسان ميلاً إلى الكمال. فلا يقتضي البلوغ إليه سوى الإرادة. إنَّ الفضيلة التي تعمل فينا، لا تطلب سوى نفس مستعدَّة بالنـِّعمة لانتشار الملكوت ولقبول كلـَّما يَرد عليها من العلاء. وإن ما تقدَّست به النـَّفس من دم المسيح هو ينبوع لا ينضب تنبثق منه كلّ الفضائل، إلاَّ إذا شَوَّه جمالها شهوة أو حجب بهاءها خطيئة".
سادسًا موهبة تمييز الأرواح
قال الكتاب:" لا تصدِّقوا كلّ روح" (1 يوحنا 4/ 1). وليس بصعب بنعمة الله أن نميِّز ملائكة الـنـُّور من ملائكة الظـَّلام. فمنظر أُولئك محبوب، لطيف، جميل، مطمئنّ لذيذ، عذب ومنعش للقلب والرُّوح، وذلك لأنَّ الرَّبّ معهم. فتصير أفكارنا هادئة وبصائرنا صافية وأشواقنا نقيَّة، ونفوسنا هادئة وقلوبنا مرتفعة إلى فوق، تودّ لو خلعت الجسد لتصير مع الملائكة.
وأمَّا الأرواح الشِّرِّيرة، فعلى ملامحهم الجور والظـُّلم. منظرهم مخيف؛ أصواتهم مزعجة، أفكارهم دنسة. فإذا تراءوا لنا بمظاهر مرعبة اعترانا الخوف والقلق والاضطراب. وإذا تراءوا لنا بمظاهر قبيحة، هاج بنا الشَّوق إلى المنكرات وجاشت فينا العواطف الشَّهوانيَّة وملنا إلى الفساد والضَّجر والكراهيَّة لكلّ ما هو مقدَّس. قال القدِّيس أنطونيوس: "للشَّياطين مكائد، فإنـَّهم يتراءون أحيانـًا بشبه ملائكة الـنـُّور، يمدحون أعمالنا ويعدوننا بالثـَّواب الأبديّ.
كان من تلاميذه الأنبا آمون أبو جبل نتريا، أبو منطقة القلالي. وقد رأى الأنبا أنطونيوس روح الأنبا آمون وهي صاعدة إلى السَّماء، تزفـّها الملائكة في فرح...
وكان من تلاميذه أيضًا، القدِّيس الأنبا مكاريوس الكبير، أتى وتتلمذ عليه وألبسه الأنبا أنطونيوس إسكيم الرَّهبنة. واشتغل معه وشهد له بقوله: "إنَّ قوَّة عظيمة تخرج من هاتين اليدين"...
وتتلمذ عليه الأنبا بيشوى، أو الأنبا سيصوى من آباء الجبل الشَّرقي، هو وتلاميذه. وتتلمذ عليه القدِّيس الأنبا بولس البسيط، والأنبا بيساريون، والأنبا سرابيون.
وتتلمذ عليه القدِّيس الأنبا ببنوده رئيس أديرة الفيوم. وقد كتب إليه القدِّيس ألأنبا أنطونيوس رسالته العشرين.
وتتلمذ عليه القدِّيس الأنبا إيلاريون الذي نشر الرَّهبنة في سوريَّا وفي فلسطين. وعندما كان يأتي إلى الأنبا أنطونيوس أحد من تلك المناطق يطلب إرشاده، كان يقول لهم في اتـِّضاع: "لماذا تأتون إليَّ، وعندكم الأنبا إيلاريون؟". وتتلمذ عليه شيوخ عديدون إنتشروا في الأرض كلـِّها... ونشروا الرَّهبنة في كلّ مكان... وأصبح الأنبا أنطونيوس أبًا لفكرة، ولمدرسة، ولطريق حياة، أبًا لمنهج روحيّ له فروعه في كلّ مكان...
كان القدِّيس الأنبا أثناسيوس الرَّسول، البابا العشرون، من تلاميذه. درس عليه الرُّوحيَّات. تلقـَّى عنه أيضًا كثيرًا من أفكاره اللاَّهوتيَّة...
إنَّ بعض العلماء، حينما يدرسون فكرة أثناسيوس اللاَّهوتيَّة، إنـَّما يرجعون كثيرًا من أفكاره اللاَّهوتيَّة على القدِّيس أنطونيوس الكبير.
والقدِّيس أنطونيوس تتلمذ عليه كثيرون لم يروا وجهه أبدًا. لقد تتلمذوا على حياته، على سيرته التي نشرها في الغرب القدِّيس أثناسيوس الرَّسول في كتابه: (حياة أنطونيوس). وهذا الكتاب كان سببًا في انتشار الرَّهبنة في روما وفي بلاد الغرب. فترهَّب كثيرون هناك وأتى العديد منهم إلى مصر. لمجرَّد أنـَّهم تنسَّموا حياة القدِّيس الأنبا أنطونيوس.
وكان لهذا الكتاب تأثيره في هداية أُوغسطينوس. فلقد تأثـَّر أُوغسطينوس تأثيرًا عميقـًا بسيرة القدِّيس أنطونيوس، فتاب، وترك حياة الفجور، بل صار راهبًا وقدِّيسًا... ومصدرًا من مصادر الحياة التأمُّليَّة في العالم بفضل سيرة الأنبا أنطونيوس.
والقدِّيس الأنبا أثناسيوس الرَّسول، كاتب هذه السِّيرة، حينما كان يذهب إلى أي مكان من بلاد أُوروپا، كانوا يسألونه عن أنطونيوس، وعن أخبار الرَّهبنة في مصر، وعن الرَّائحة الزَّكيَّة التي تفوح من البرِّيَّة... وهكذا كان للأنبا أنطونيوس تأثير في أمكنة عديدة جدًّا لا توضع تحت حصر.
وكثيرون كانوا يأتون من بلاد الشَّرق والغرب، لكي يتتلمذوا على القدِّيس ألأنبا أنطونيوس في التـَّدبير الرُّهبانيّ. وكان بعض الفلاسفة يأتون إليه، ويسألونه، ويحاورونه، ويندهشون كثيرًا من علمه ومن ذكائه... لدرجة أنـَّهم قالوا له في إحدى المرَّات: "أنت لا تملك الكتب، ولا تقرأ الكتب، فمن أين لك هذه المعرفة وهذا الفهم العجيب؟"...
فأجابهم بسؤال عجيب: "أيُّهما أسبق: العقل أم المعرفة؟" فلمَّا قالوا له: العقل طبعًا أسبق، أجابهم: إذن المعرفة يمكن أن يلدها العقل، بدون كتب...!".
وكان يقول: "أنا إن أردت معرفة شيء، أُصلـِّي إلى الله، فيكشف لي، وأتأمَّل في آيات الكتاب، فأفهم منها. فلا حاجة بي إلى الكتب".
وكما أنَّ الـنـَّاس كانوا يأتون من مشارق الدُّنيا ومغاربها إلى الأنبا أنطونيوس، يطلبون منه كلمة منفعة، يجعلونها دستورًا لحياتهم. كذلك فإنَّ الإمبراطور قسطنطين الكبير أرسل إليه رسالة، يطلب منه فيها بركاته وصلواته. ولمَّا لم يقرأ القدِّيس هذه الرِّسالة لتوه. تعجَّب تلاميذه. فقال لهم: "لا تتعجَّبوا من هذا، بل تعجَّبوا بالأكثر أنَّ الله يرسل لنا الرَّسائل كلّ يوم من كتابه المقدَّس، ونحن لا نسرع إلى قراءتها"...!
محاربته للأريوسيَّة
كان الأنبا أنطونيوس في نظر الـنـَّاس نبعًا كبيرًا للقداسة، ومعلـِّمًا كبيرًا للرُّوحيَّات. وكانت كلّ كلمة تخرج من فمه هي كلمة ثقة وصدق لدرجة أنـَّه عندما انتشرت الأريوسيَّة في الإسكندريَّة، نتيجة للشُّكوك العنيفة التي أثارها الأريوسيُّون ضدّ لاهوت السَّيِّد المسيح، طلب الآباء الأساقفة من القدِّيس أنطونيوس أن ينزل لكي يقول كلمة فيسند بها تعليم البابا أثناسيوس الرَّسول...
ونزل الأنبا أنطونيوس إلى الإسكندريَّة، وهو فوق المائة من عمره، وقضى ثلاثة أيَّام، فيها ثبَّت الـنـَّاس في الإيمان. ويقول المؤرِّخون أنَّ الأيَّام الـثـَّلاثة التي قضاها الأنبا أنطونيوس في الإسكندريَّة كان لها مفعول السِّحر في الـنـَّاس وكانت أكثر دسمًا من سنوات عديدة في التـَّعليم.كانت كلمة التـَّعليم تخرج من فم الأنبا أنطونيوس، تسندها قداسة سيرته، وتسندها المعجزات، وتسندها ثقة الـنـَّاس به.إنـَّه رجل الله. فكلّ ما يقوله هو كلام من الله.
7. إنتشار تلاميذ القدِّيس أنطونيوس في الشَّرق عامَّة وفي لبنان خاصَّة
إنَّ رائحة عبير فضائل القدِّيس أنطونيوس قد انتشرت في الشَّرق وعطـَّرت أرجاءه، وسيرة حياته النـُّسكيَّة الطـَّاهرة التي كتبها معاصره وصديقه القدِّيس أتناسيوس، بطريرك الإسكندريَّة آنذاك، تسرَّبت إلى كلّ مكان بواسطة تلاميذه في الجيل الرَّابع والخامس والسَّادس والسَّابع.
التـَّقليد الشَّعبي يقول لنا أنَّ القدِّيس أنطونيوس قد أتى بذاته إلى لبنان وسكن المغارة المعروفة بإسمه في دير قزحيَّا. أمَّا الـتـَّاريخ والواقع فيخبراننا أنَّ القدِّيس أنطونيوس لم يأتِ إلى لبنان بذاته. إنَّ تلاميذه، البعض منهم، هم الذين تركوا الصَّعيد وانتشروا في الشَّرق. الأنبا إيلاريون والأنبا أبون والأنبا باسيليوس الذين أخذ عنهم القدِّيس مارون الذي تتلمذ له كثيرون كالقدِّيس يعقوب الكبير والقدِّيستين كورا ومارانا (+ 445).
ولمَّا أتى بعض الموارنة من سوريَّا الـثـَّانية إلى لبنان في أواخر الجيل السَّابع رافقهم رهبان مؤسِّسهم مارون، لابسين زيّ القدِّيس أنطونيوس، قصد التوطـُّن في ربوعه فأنشأوا المناسك والأديار في وديانه وجباله، يكرِّمون في كنائسهم على مذابحها أباهم القدِّيس أنطونيوس. فقطنوا أوَّلاً مغاوره في الجبال والوهاد حتى حطَّ الرِّحال ببعضهم في وادي قاديشا وقزحيَّا، حيث سكنوا مغارة كبيرة نسكوا فيها. دُعيَت باسم معلـِّمهم القدِّيس أنطونيوس. فتتلمذ لهم كثيرون من سكـَّان البلاد والمناطق المجاورة، وأخذوا عنهم حياة النـُّسك والزُّهد في الدُّنيا والسِّيرة الرُّهبانيَّة؛ فصاروا قدِّيسين. وقد بنوا بقرب هذه المغارة، على مدى الأجيال، حبسًا يسكنه كاهن وراهب، عُرِف بحبس قزحيَّا، تلته عدَّة محابس كمحبسة مار بيشاي ومار ميخائيل ومار يوحنـَّا. ولم تزل هذه المحابس قائمة حتى الآن.
ثمَّ تطوَّر هذا الحبس وصار ديرًا صغيرًا على إسم مار أنطونيوس، قد تسلـَّمته الرُّهبانيَّة اللـُّبنانيَّة المؤسَّسة سنة 1695 من يد المطران يوحنـَّا حبقوق سنة 1708. وقد اشتهر هذا الدَّير بالعجائب من كلّ نوع، خاصَّة الرُّجوع إلى الله بالتـَّوبة وطرد الشَّياطين وشفاء المجانين وإعطاء البنين للعواقر. يشهد بذلك إقبال جماهير الزوَّار التي تتقاطر إليه من كلّ حدب وصوب ومن كلّ الطـَّوائف والأديان شرقـًا وغربًا، يطلبون النـِّعم من الله بشفاعة من أسماهُ الشَّعب" بأبِ العجائب"، القدِّيس أنطونيوس.
فعمَّرت الرُّهبانيَّة الدير واشترت له الأراضي الواسعة بجهد الرُّهبان وكدِّهم وتعب أيديهم، وكبَّرته شيئًا فشيئًا وجدَّدته مرَّات بعد أن خرَّبه أعداء الدِّين، إلى أن صار على ما هو عليه الآن، آية في الفنّ وروعة في الجمال ومزارًا مقدّسًا عالميًّ. فازدهرت الحياة النـُّسكيَّة والحالة الرُّهبانيَّة في لبنان. فكانت لنا الأديار والصَّوامع على الجبال وفي الوهاد والمنعرجات، يسكنها الرُّهبان، جاعلين منها معاقل للصَّلاة والتأمُّل والعمل اليدويّ، ومنطلق رسالة روحيَّة ووطنيَّة لا أجمل ولا أروع، لا أوسع ولا أنزه، وحرابًا صلبة تردّ صواعق غضب الله عن لبنان والكنيسة والعالم. وكان لنا، ما عدا المؤسِّسين الأبرار، القدِّيسون مثال الآباء نعمة الله كسَّاب الحرديني وشربل مخلوف البقاعكفريّ ودانيال العلم الحدثيّ (الجبِّة) ويوسف أبي غصن الجبيليّ والأُخت رفقا الرَّيِّس الحملاويَّة والأخ إسطفان نعمة اللـِّحفديّ، وغيرهم...
وهكذا تتابعت الحياة النـُّسكيَّة والسِّيرة الرُّهبانيَّة على مدى الأجيال في لبنان حتى يومنا هذا، بفضل الرُّهبانيَّات. ولم تزل الرُّهبانيَّة اللـُّبنانيَّة تواصل بدورها المسيرة الخيِّرة وتحافظ، بفضل الله وشفاعة أبنائها البررة القدِّيسين الكثر،على التـُّراث الثـَّمين وترعى الوديعة بعين العناية وبكلّ اهتمام؛ تسلـِّم المشعل من كابرٍ إلى أكبر، محقـِّقة ومتابعة بذلك الرِّسالة الرُّوحيَّة والوطنيَّة بكلّ أمانة وشجاعة، مستلهمة الرُّوح القدس ومصلـِّية إلى الله الآب والإبن، لتكثر الدَّعوات الرُّهبانيَّة والنـُّسكيَّة المقدَّسة. وليظلّ لبنان مهد الحقّ والخير والجمال ومنبع القداسة وحامل مشعل الحضارة الإنسانيَّة المسيحيَّة ورسول المحبَّة والسَّلام إلى العالم.
حبَّذا لو نبقى تلاميذ لأنطونيوس، نمشي خطاه ونسير درب الحقّ والحقيقة بين دروب الحياة الشَّتـَّى والعديدة، فنطالب كما طالب الرُّهبان منذ القِدَم "بكلمة حياة". ونقول لأنطونيوس: "أبَّا، قل لي كلمة حياة"
8. وفاة أنطونيوس ووصيَّته الأخيرة
أنعم الله على القدِّيس أنطونيوس بحياة طويلة قضاها مع الله بالجهد العنيد والحبّ المستميت. ولمَّا علِمَ بدنوّ أجَلِه، حدّثته نفسه بزيارة تلاميذه في صوامعهم للمرَّة الأخيرة ليراهم ويلقي عليهم وصيَّته الأبويَّة الأخيرة. ولمَّا وصل، سلـَّم عليهم وقال لهم: "هذه، يا أولادي، زيارتي الأخيرة لكم. ولا أظنّ أنـِّي أراكم بعد في هذه الدُّنيا. إنَّ المئة والخمس سنين تضطرُّني إلى أن أنحلَّ من هذا الجسد الفاني".
فحزن سامعوه وامتلأت قلوبهم كآبة وعلت زفراتهم وتهافتوا على يديه يقبِّلونها. ثمَّ أشار القدِّيس أنطونيوس ليسكـتوا ويكـُفـُّوا عن البكاء. وتابع يقول لهم:
"يا أولادي، إنـِّي مغادركم. غير أنـِّي لا أنفكّ عن محبَّتكم. مارسوا دائمًا أعمالكم المقدَّسة ولا تتراخوا قط. احرصوا كلّ الحرص ألاَّ تدنـِّس أنفسكم شوائب الأفكار. اجعلوا الموت نصب أعينكم واجعلوا قيد أبصاركم حياة القدِّيسين واقتدوا بهم. اتبعوا طريق الحقّ شجعانـًا، وحذارِ أن تشتركوا مع الأريوسيِّين المعروف كفرهم ونفاقهم وزميم أعمالهم. اهربوا منهم. لا تتعجَّبوا من مساعدة الحكـَّام ومناضلتهم عن تعليمهم. فهذه السُّلطة الوهميَّة التي اختلسوها لا بدّ أن تتلاشى. وليكن ذلك محرِّضًا لكم على ألّا تكون لكم علاقة بهم. حافظوا بكلّ تقوى على تقليدات آبائكم واثبتوا في إيمان المسيح وعلى ما تثقـَّفتم به من الأسفار المقدَّسة واستماعكم الإرشادات التي ألقيتها عليكم أنا العبد القاصر".
فألقى كلامه هذا في قلوب تلاميذه حزنـًا عميقـًا. لكـنـَّهم التزموا، مراعاةً لشعوره، أن يكتموا حزنهم، إنـَّما اجتهدوا أن يحملوه على البقاء بينهم حتى ساعة موته. فيتشرَّف ديرهم بميتته المجيدة ودفنته الموقـَّرة. هذه هي التـَّعزية الوحيدة التي كانوا يرجونها. لكنَّ القدِّيس رفض طلبهم هذا بكلّ صراحة. وودَّع رهبانه وعاد إلى خلوته استعدادًا لملاقاة ربِّه.
وبعد أيَّام من وصوله إلى صومعته، اعتراه المرض. فقدَّم لله تعالى حياته وسأله بكلّ اتـِّضاع أن يغفر له خطاياه مفوِّضًا إليه أمر نفسه. ثمَّ صلـَّى من أجل تلاميذه وخاصَّة من أجل تلميذيه مكاريوس وأماتوس اللـَّذين كانا معه منذ خمس عشرة سنة، يقيمان معه ويخدمانه في شيخوخته، وقال لهما:
"إنـِّي، يا ولدَيَّ العزيزين، منطلق في طريق الآباء. فالرّبّ يدعوني. وأنا مرتاح كلّ الإرتياح للحُظوة بالإتـِّحاد به تعالى. أُذكـِّركما، بنيَّ، وأحضُّكما ألاَّ تضيعا في يسير من الزَّمن جنى أتعاب سنوات عديدة. ضعَا نصب أعينكما أنـَّكما قد ابتدأتما اليوم، فيزداد عزمكما وحرارتكما بحفظ الواجب. أنتما تعلمان مكائد إبليس وقساوته ولا تجهلان ضعفه. فلا تخافاه قط؛ بل آمِنا بيسوع المسيح واكتبا على صفحات قلبَيكما الإيمان باسمه المقدَّس، لأنَّ الإيمان الرَّاسخ يهزم الأبالسة. أجيلا فكركما في نصائحي واذكرا زوال الحياة التي هي في تصرُّفٍ وتقلـًّبٍ دائم. فتحرزا عاجلاً ثواب السَّماء. اهرُبا من سمّ أرباب الشِّقاق والبدَع لأنـَّهم أبدًا أعداء صليب المسيح. إجهَدا النـَّفس في حفظ وصايا الله. فبعد مماتكما، يلقاكما الجميع بمنازل السَّماء كأصدقاء. فكـِّرا بهذه الأشياء وتصرَّفا فيها بفطنة وتحدَّثا عنها ما استطعتما".
"ثمَّ إنـِّي أُناشدكما الله، إذا خطرت لكما في بال وجاء في فكركما ذكر أبيكما، وإذا شئتما أن تبادلاني ما لي عندكما من خالص المودَّة، ألاَّ تحملا جسدي إلى مصر، مخافة أن يُصان. فيكون لي ذلك الإعتبار الباطل، تِبعًا لعادة المصريِّين الذميمة. فحذار من ذلك، عدتُ إلى هنا لكي أموت في هذا الموضع. فأنتما إذًا تدفناني في بطن الأرض وتردَّان التـُّراب عى جسد أبيكما. واحفظا وصيَّتي، وهي ألاَّ تَدعا أحدًا سواكما يعلم أين موضع دفني. ورجائي وطيد أنـِّي أقبل هذا الجسد يوم القيامة من يد سيِّدي يسوع المسيح معصومًا من الفساد. أمَّا ثيابي، فإنـِّي أُوزِّعها كما يلي: "أعطيا الأُسقف أتناسيوس جلد الغنم والرِّداء الذي استلمته منه جديدًا فأردُّه له باليًا. أعطِيا الأُسقف سرابيون جلد الغنم الآخر. واحفظا لكما مِسحيَّ. أستودعكما الله، يا ولدَيَّ العزيزَين. إنَّ أنطونيوس يفارقكما بالجسد ولا يفارقكما بالرُّوح".
(الشُّذور الذَّهبيَّة صفحة 101- 106).
فلمَّا انتهى أنطونيوس من كلامه، تقدَّم إليه الـتـِّلميذان يعانقانه. ثمَّ بسط رجليه وقابَل الموت بكلّ هدوء وابتهاج وإشارات الفرح السَّماويّ بادية على ملامحه فاتحًا ذراعيه كأنـَّه يريد أن يعانق آخرين. ولفظ روحه الطـَّاهرة. لاحقـًا الآباء الأوَّلين، في السَّابع عشر من كانون الـثـَّاني سنة 356، وله من العمر مئة وخمس سنين. أمَّا الـتـِّلميذان فعَمِلا بما أوصاهما. فأدرجا جسده في كفن ودفناه في بطن الأرض.
المصادر
- البابا شنوده الـثـَّالث، تأمُّلات في حياة القدِّيس أنطونيوس، أيلول 2006.
- عبد المسيح توما، القدِّيس المتسربل بالبرِّيَّة، آذار 2005.
- الأب فاضل سيداروس، معنى البرِّيَّة لزماننا الحاضر، قراءة معاصرة في سيرة القدِّيس أنطونيوس، دار المشرق- بيروت.
- مؤسَّسة القدِّيس أنطونيوس، المركز الأُرثوذكسيّ للدِّراسات الآبائيَّة، رسائل القدِّيس أنطونيوس، دار يوسف كمال للطـِّباعة.