«لا تدينوا لئلا تُدانوا» (متَّى1/7) «متفرقات
أفكار خاطئة عن الندامة
إنَّ نعمة الله تُقاس بمقدار الهوَّة التي يحفرها فينا الندم. وما ينقصنا هو الإحساس بذنبنا وبخطيئتنا. لا لإحساس يقود إلى اليأس ووخز الضمير، بل إحساس بندامة حقيقيَّة. وللوصول إلى النبع، يجب النزول إلى القعر، إلى جذور الكيان. ففي الندم سرُّ شباب، وسرُّ حياة، وسرُّ طفولة رائعة.
فنحن نعيش عادة في المناطق الوسطى من كياننا، ونخطئ نصف الخطأ، ونعود إلى الله نصف عودة. كلّ ما فينا هو في الوسط، ويجري في مناطق وسيطة بطريقة فاسدة للغاية. فلسنا أمواتًا ولا أحياء. ولسنا حارّين ولا باردين، بل فاترين…
ولذلك فإنَّ ندامتنا ليست ندامة حقيقيَّة، بل مجرَّد شكليَّات، أو، وهو أسوأ ما في الأمر، تبرير للذات. ونقول في أنفسنا: «في الواقع، ليس هذا أمرًا شنيعًا جدّاً، فالجميع يفعلون ذلك». ونستند إلى كلِّ أنواع الظروف التي تخفِّف ثقل الذنب، ونُلبس خطايانا أجمل الثياب، ونُزيِّنها، ونخفي شكلها الحقيقيّ، ونأتي بها أمام الرَّبّ وهي في هيئة هفوة صغيرة لطيفة وخفيفة الظل، تدعو إلى الشفقة.
وفي الواقع، فإنَّنا نُعطي أنفسنا، بهذا التصرُّف، "الحلَّ" من الخطايا مُقدَّمًا، ونشعر بأنّنا قد تبرَّرنا. وإنَّ رفضنا لتحمُّل مسؤوليَّة أخطائنا سببه أنَّنا لا نملك شيئاً بديلاً لوخز الضّمير واليأس.
الندامة لا تخشى النزول حتَّى عمق الخطيئة، حتَّى عمق الكيان. ففي الشّعور الصّادق بالذنب، أمسِك خطيئتي بيدي وأنظر إليها وجهًا لوجه، وأعترف بها، وأقبلها، وأتحمَّل نتائجها، وفي الوقت نفسه أنكرها. فكرامة الإنسان الكبرى وعظمته تقومان على تحمُّله مسؤوليَّة عمله.
منذ أيّام، قال لي شخص في الإعتراف: «يا أبانا، ارتكبتُ هذه الخطيئة الشنيعة وفعلتها بملء إرادتي وحريَّتي وبانتباه تام، لا سهوًا. وأنا أدين نفسي، وأندم عليها من كلِّ قلبي».
وعند سماعي هذا الإعتراف، طأطأتُ رأسي، وقلتُ في نفسي: «هذا أمرٌ رائع…!» فالإدراك الكامل للخطأ، والندامة الصادقة عليه يجعلانكم تدخلون إلى أعماقكم وتصلون إلى النبع وتتجدَّدون.
رفض الإعتراف بالذنب هو رفض السموِّ والنمو. فحين يصل الإعتراف بالذنب إلى عمق الذات، فإنَّه يسبِّب قفزة وارتفاعًا، كالكرة التي تسقط على الأرض، فهي حين تصل إلى الأرض وتصطدم بها تقفز إلى الأعلى. وكثيرًا ما يعجز الإنسان عن القفز لأنّه لا يريد أن يلمس أرضيَّة كيانه، ولأنَّه يرفض أن يسقط إلى عمق ذاته. ففي هذه الحالة، ليس هناك إعادة نظر ولا تجدُّد ولا سمو.
إسمعوا ما يقوله لاكروا في هذا الصدّد: «إنَّ رفض الإعتراف بالذنب هو رفض للذات. والشّعور الصادق بالذنب هو ثمرة للنقد الذاتي، أي الإعتراف بوجود نقص وعدم اكتمال وإدراك للمجهود الذي به يمكننا متابعة اكتمالنا وتحقيقه».
قال شابّ حُكم عليه بالإعدام عند موته: «أنا أكثر قيمة من حياتي». وتعني هذه العبارة المذهلة أنَّ هذا الشّاب، الذي ارتكب جميع أنواع الجرائم والآثام، لاحظ ساعة موته أنَّ هذا كلَّه لا يعبِّر عن حياته الحقيقيَّة، وعن "أناه" الحقيقيّ. فبالنسبة إلى العدالة الصرفة، هو مذنب.
ولكنَّه في عمق كيانه كان يقول: «كلُّ هذا ليس أنا». مَن منَّا لم يشعر بعد ارتكابه خطيئة أنَّ ما فعله ليس جوهر ذاته؟ فالندم الحقيقيّ ليس في أن ننكر الشرَّ الذي اقترفناه، بل في أن نضع أنفسنا أعلى من الشرّ. وأن نقول: «نعم، هذا صحيح، لقد خطئت، ولكنَّ هذه الخطيئة لا تعبِّر عن عمق حياتي، وأنا أرفض أن أنسب ذاتي إليها، فأنا أكثر قيمة من خطيئتي. لقد أردتها وفي الوقت نفسه لم أرِدها».
كيف أمكن للصِّ اليمين أن يمحو آثام حياة بكاملها بفعل واحد؟… لقد تمكَّن من هذا لأنَّه دخل عميقاً في ذاته بفعل الندامة الوحيد، واستطاع أن يجدِّد كلَّ حياته وأن يفتدي ماضيه.
وأمام هذا الصّفح الذي منحه المسيح مجَّانًا وفجأةً، قد نصرخ ونقول معارضين: «هذا ظلم»، فيجيب المسيح: «كلا، هذا عدل». لأنَّه وإن عجز الإنسان عن محو جميع أفعاله وجرائمه، فهو قادر على مستوى نيَّته العميقة وكيانه الجوهريّ أن يريد شيئاً آخر، وأن يختار مرَّة أخرى، وأن يُضفي على حياته بُعدًا جديدًا.
هذه هي التوبة: أن يختار الإنسان مرَّة أخرى، ويريد لنفسه صورة جديدة. وهذا هو الرَّجاء. وبتعبير آخر، لا أنكر ماضيَّ حين أرفض تحمُّل تبعته، بل حين أقول: «أنا أكثر قيمة من حياتي، ولا أريد نفسي كما كنت عليها. لا أريد أن أكون كما كنت عليه». فالتوبة هي العودة إلى الـ"أنا" الأصليَّة، إلى شخصي في جذوره، والتوبة هي تجاوز الشّريعة.
إنَّ صفح المسيح هو بالتحديد ذلك الفعل الذي يُعيد صياغة الإنسان ويجدِّده في مركزه، وصفحنا هو أيضًا فعل يمكنه أن يخلق الآخر مرَّة أخرى، ويجدّده في مركزه.
إنَّه يقوم على أن نقول للآخر: «إنَّ ماضيك قد نُسي ومُسِح، وإنَّني أعطيك فرصة، وإنَّك تستطيع أن تبدأ حياتك مرَّة أخرى». فأعطي إمكانيَّة الفداء لهذا الشّخص اليائس المذلول المحطَّم.
وبين الزوجين أو بين الأصدقاء، يمكننا دائمًا إحصاء أخطاء الماضي: «تذكَّر أنَّك فعلت كذا، وقلت كذا، وفي العام الماضي فعلت كذا، وفي الشّهر الماضي حدث منك كذا…». «نعم، أذكر هذا وأقرُّ به، وأنت على حقٍّ، لقد فعلتُ ذلك». وتحني رأسك، في حين يسحقك الآخر ويدوسك ويوبّخك ويتلذَّذ بإنتقامه. حينئذ تدافع عن نفسك: «نعم، لقد فعلتُ ذلك الشيء. ولكنَّك أنت أيضًا فعلتَ كذا وقلتَ لي كذا…»، وحينئذ يبدأ الشجار والعراك. ويتوه كلٌّ منهما في دائرة جهنميَّة من الإتهامات القاسية.
يقول لنا الإنجيل: «لا تدينوا لئلا تُدانوا» (متَّى 1/7). نعم لا تدينوا ولا تحكموا على أحد، لأنَّكم لا تعلمون ما يختفي في داخل الإنسان. فما تعرفونه وتحكمون عليه هو الماضي. أمَّا المستقبل فلا تعرفونه، وهو مملوء بالوعود…
وللوصول حقاً إلى هذا المستوى من الغفران، علينا أن نبدأ من أنفسنا، ونعترف بأنَّنا خطأة، وأن نقبل لأنفسنا أن يُصفَح عنَّا. في غالب الأحيان، لأنَّنا نرفض الإقرار بذنوبنا، نرفض أن نسامح الآخرين. فنحن نقول في الصّلاة الربيَّة: «واغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر للمذنبين إلينا» فبالإقرار بخطيئتنا نصبح قادرين على غفران خطايا الآخرين وعقد المصالحة.
نقلاً عن كتاب: الأب هنري بولاد اليسوعي، الإنسان وسرُّ الزمن