لا أعرف كيف أصلي! «متفرقات
لا أصلّي بالقدر الكافي. أصلّي بصعوبة، يجب أن أكرّس وقتًا للتأمّل كلّ يوم. لست منتظمًا في ذلك. بإمكاني البقاء أيّامًا كثيرة من غير أن أخصّص وقتًا محدّدًا للصَّلاة. أنا مؤمنٌ وغالبًا ما أفكّر بالله في أثناء أيّامي. أعتقد أنّني أحبّه وأتوق لأجعل من حياتي تحفة رائعة لأجله، بل إنّ توقي يجعلني أتجرّأ على القول: "أعتقد أنّني أحبّه". ولكنّني لست متأكدًا من ذلك!
إنّي أبذل كلَّ ما في وسعي من جهد لأقوم بعملي على أكمل وجه، بلا غش وبمنتهى النزاهة. وأقدّم له العمل والجهد كليهما معًا. وأبحث كيف أكون نافعًا وأعطي لحياتي بُعدًا رسوليًا. إلّا إنّي أعلم أنّ كلّ ذلك ما زال ناقصًا وتأثيره ضعيف، ومع ذلك أقوله لأبيّن أنّني لا أزال متّحدًا بالله نوعًا ما في حياتي اليوميّة؛ فأنا لست غير مبالٍ بالله ولكنّي ما زلت عاجزًا عن المواظبة بأمانة على صلاةٍ منتظمةٍ وطويلة بعض الشيء، ممّا يجعلني أشعر بالذنب. وكأنّ هذا العجز شوكة تجعلني أتباطأ وأتقاعس. وهذه هي قضيّتي. وإذا ما تجّرأت على كتابتها فلأنّي أعلم أنّي لست الوحيد الذي يعاني، فحالتي عامّة بدرجة كبيرة، ومن هنا أتقاسم تفكيري مع الذين يعانون مثلي، أولئك المدعوّين: "بالمعاقين في صلاتهم".
لماذا؟
ليس نقص الوقت سببًا مقنعًا. إنه المبرّر الذي أقدّمه في أغلب الأحيان. ولكنّني لا أعترف به في عمق نفسي. فحينما أريد حقًا أن أجد وقتًا فباستطاعتي أن أوفّره، فأنا لا أجهد نفسي طوال ساعات النهار الأربع والعشرين. إنّي أحتاج للاسترخاء والترفيه، وأودّ لو أجد في نهاري فسحاتٍ من الحريّة أستسلم فيها لنزواتي. فبإمكاني إذن أن أجد ساعة واحدة في النهار لو أردت ذلك.
مراحل من مسيرتي في الصّلاة
لقد مررت بمرحلة كنت أقول فيها ليسوع عبارات جميلة وكلمات حبّ. كانت مرحلة مليئة بالحماس. وجاء يوم اكتشفت فيه أنّني كنت أقوم بنسجٍ أدبيّ، كنت أعيش في سراب ورديّ. ومن ذلك الحين لم أعد أجرؤ على مخاطبة الرَّبّ بعبارات مطوّلة. إذ لا يمكن أن نخدع الله، فهو يعرف قلب الإنسان.
مررت بمرحلة أخرى كنت أصلّي فيها إلى الله طالبًا منه أشياءً أو نعمًا أو نجاحاتٍ. كنت أردّد على مسامعه بلا مللٍ أنّني أريد أن أكون نقيًا وأنّ عليه مساعدتي في ذلك، وأنّني أريد أن أكون قدّيسًا ومن واجبه أن يعضدني في تحقيق ذلك. وإذ لَم ألقَ أي جواب على طلباتي المتكرّرة تلك، فقد تزعزع إيماني لمدّة طويلة. ألم يقل: "إسألوا تُعطوا"؟ فكنت أطلب ولا أجد... ولذا توقفت عن الطلب لأجل ذاتي وإن استمرّيت أصلّي من أجل الآخرين، فهو يعلم كلّ احتياجي وما هو حسن لي. إنّه أبي وأنا ابنه الصّغير وسوف يعطيني ما أحتاجه حقًا – وحتى ما هو روحيّ – عندما يلزم الأمر. وإذ لم أعد أردّد العبارات الطويلة ولا الطلبات، رجعت للإصغاء إلى الله متتبّعًا في ذلك النصائح التي كانت قراءاتي الروحيّة تزوّدني بها.
ولكن تأمّلي تحوّل إلى نوع من الأحلام المبهمة الفارغة، فصرت أشعر أثناءها بمللٍ شديد، متلفّتًا إلى ساعتي التي بدا وكأنّ عقاربها توقّفت عن الحركة. ولم أكن أخرج بشيءٍ من هذه الصّلاة. وإن حدث وصمدت بمعجزةٍ مدّة نصف ساعة أمكنني أن أختم صلاتي مردِّدًا بحرارة كلمات "الأبانا" وأنا راضٍ فقط لكوني تمكّنت من الثبات أمام امتحان عقارب السّاعة ذاك. فأمّا مضمون صلاتي فكان فارغًا... أغلب الأحيان، أو هكذا بدا لي! إنّي أقف أمام الرَّبّ "مثل بهيمة"! أعتقد أنّ كلام هذا المزمور يناسبني (مز 23 و 72). والنتيجة المفجعة لهذا العجز هي أن الصّلاة أصبحت "واجبًا"، أو "تمرينًا" بدلاً من أن تكون فرحًا.
وأمام عجزي واستسلامي، يبدو لي بديهيًا ما أختبره من إحساسٍ بالذنب يدفعني للتساؤل حول إيماني، فأقول لنفسي: "هل أنت مؤمنٌ حقًا؟ لو كان الله يسكنك وكنتَ تعرف أنه حاضرٌ حقًا بشكلٍ غير منظورٍ في قلب ما هو منظور، وأنه أساس كلّ الأشياء وهو يحبّك حبًّا شخصيًا لدرجة لا يمكنك معه أن تُوجَدَ إلا بفضل حبّه هذا... أفتستطيع من بعد ألّا تعطيه هذا الوقت الذي تهرب منه؟" أوليس هذا الهروب من الصّلاة في النهاية هو قلّة إيمان؟
ولكنّني أجد تعزية حينما أفكّر أنني أعيش ما اختبره الرّسل – فقد قال لهم يسوع: "إن كان لديكم إيمان مثل حبّة الخردل – وهي أصغر الحبوب – لنقلتم الجبال" وكأنّي به يريد أن يقول لهم بأسلوب ظريف إنّه ليس لديهم إيمان، وأنا مثلهم أيضًا. فهل يتوجّب عليّ أن أعتكف في عليّة حياتي منتظرًا انسكاب قوّة من العلاء؟ وهل الإيمان والصّلاة هبتان من الرّوح؟ إنّي أعلم جيّدًا أنّ كلّ شيء هو هبة... ولكن علينا ألّا نتلاعب بالألفاظ. لقد تعرّفت على أشخاص يمضون ساعات طويلة مع الله حتى لَينسوا أنفسهم؛ وما من شكّ أنّهم نالوا نعمة خاصّة للصَّلاة. ولكن، هل يبيح لي ذلك بأن أقبل عجزي مبرّرًا إيّاه بأنّني لم أنل الموهبة؟
ماذا أقصد بقولي: أن أعرف كيف أصلي؟
عليّ أن أعترف بأنني تعلّمت أمورًا عديدة من خلال كلّ فشل لقيته في الصّلاة. تعلّمت أنّ الصَّمت يكون دائمًا أصدق مع الله من الكلام. تعلّمت أنّني غالبًا ما كنت أبحث عن ذاتي في كلّ صلوات الطلب، وحتى تلك التي تبدو أنّها الأكثر تجرّدًا. تعلّمت من خلال عدم استجابة طلباتي أن الله ليس في خدمتي، بل عليّ أنا أن أخدمه. كما تعلّمت بالقدر نفسه أيضًا أنّه خالق حياتي، ومُرشدي وطريقي، وأنّ عليّ أن أثق به وأستقبل حياتي منه بدلاً من أن أحاول أن أمنحها لنفسي. بل ولقد عرفت من خلال صمتي أمامه ومن أحلامي الشّاردة، شيئًا عن طريقة تعامل الله؛ كيف هي، وبالأخص ما ليست إيّاه... وهكذا، مع مرور الزمن، أصبح الفراغ الذي أعانيه في الصّلاة تطهيرًا بطيئًا، وتمرّسًا بفقري وطريقـًا للتواضع.
ومع أنّي لا أزال أجهل كيف أصلّي، ولا أزال أمارس صلواتي بشكلٍ متعيّرٍ وبقدرٍ قليلٍ جدًا، فأنا أعترف – كي أكون صادقـًا أمام الله – بالمسيرة التي جعلني أجتازها بالرّغم منّي، وأن أقول له بكلّ لطف "شكرًا". فقد تعلَّمتُ أنّ الصَّلاة هي عمل يتطلّب كلّ الإمكانيّات الإنسانيّة قوّة العقل وقدرة التركيز وإرادةً تُلزِم حرّيتنا بالإضافة إلى القوى العاطفيّة.
ذلك أنّ الصَّلاة فعل حبّ، والجسد مدعوّ هو الآخر للإشتراك فيها، لأنّ الإنسان كلٌّ لا يتجزّأ. بالطبع سأمتلئ سرورًا إذا توصّلت إلى الإلتزام بالوقت الذي حدّدته للصَّلاة. سأكون سعيدًا بنفسي... أليس كذلك؟ ولكنّي لستُ متيقّنًا إن كان التزامي هذا يعني أنّني أعرف كيف أصلّي. بل إن دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ بالتأكيد على انتصاري على أنانيتي، ليس إلاّ. فما الذي يسمح لي إذن أن أقول إنّني أعرف كيف أصلّي؟
هل أقول إنّي أعرف كيف أصلّي إذا ما كان قلبي يضطرم حين أصلّي؟ لا، فأنا أعلم أنّ هذا الإحساس كمثل برقٍ خاطف في الليالي العاصفة. ولقد علّمتني الصّلاة أيضًا أن أعرف ذاتي، وأن أعرف أنّنا نسلك في الظلمة لا في وضح العيان، في طاعة الإيمان لا في السّهولة التي تميّز اللقاء وجهًا لوجه. لقد سار النبيّ إيليّا 40 يومًا و40 ليلة قبل أن يصل إلى جبل الله، وأعلم أنّ هذه المدّة تشير إلى رقم كامل. نعم إنّها مسيرة حياة كاملة في الصّحراء، حياة ملؤها التطهير الطويل والتعلُّم البطيء لكيفيّة التجرّد عن الذات قبل الوصول إلى جبل الله، حيث الرؤية هبة مجانيّة.
الخاتمة
أشعر أنّني لن أصلّي أبدًا بالمعنى الذي يشتاق إليه قلبي، وسأكون على الدّوام فقيرَ الله. ولكنّني متأكّد أيضًا أنّني كسولٌ وأن أنانيتي تمنعني من أن أحبّ حبًا كاملاً وبكلِّ طاقات كياني كما يجب وكما أودّ بالفعل، فعدم معرفتي لكيفيّة الصّلاة لا تعفيني من الصّلاة.
وإنّ أكثر ما يدهشني هو واجب الاعتراف بكلِّ ما علّمتني إيّاه الصَّلاة بالرّغم من عدم أمانتي العميقة. فهذه الخبرة تدفعني للاعتراف بأمانة الله المُطلقة. وأمّا ما لا يمكن أن يرقى إليه الشكّ من بعد، فهو كونه يعلم كيف يقودني من خلال طرقه الخاصّة إلى التجرد النهائي الذي سيتيح لي أن أجعل من حياتي تقدمة حبٍ كاملة. فليعطني بنعمته أن أحيا هذه اللحظة.
الأب جاك ماسون اليسوعي.