كلمة البابا إلى أعضاء الكوريا الرومانية لمناسبة عيد الميلاد «متفرقات
التقى قداسة البابا فرنسيس صباح يوم الجمعة في قاعة كليمنتينا بالقصر الرسولي بالفاتيكان أعضاء الكوريا الرومانية لتبادل التهاني بحلول عيد الميلاد. وللمناسبة ألقى الأب الأقدس كلمة قال فيها
الميلاد هو العيد الذي يملؤنا فرح ويعطينا اليقين بأن ما من خطيئة ستكون أكبر من رحمة الله وما من عمل بشري سيمنع أبدًا فجر النور الإلهي من أن يولد على الدوام في قلوب البشر. لذلك وعلى أساس القناعة الثابتة بأن النور هو على الدوام أقوى من الظلمة أريد أن أتأمّل معكم حول النور الذي يربط الميلاد – المجيء الأول – بالمجيء الثاني في المجد ويثبّتنا في الرجاء الذي لا يخيّب أبدًا. ذلك الرجاء الذي تتعلّق به حياة كل فرد منا وتاريخ الكنيسة والعالم بأسره.
يذكرنا الميلاد في كلِّ عام أن خلاص الله الذي يُعطى مجانًا للبشرية بأسرها وللكنيسة ولنا بشكل خاص، نحن المكرّسون، لا يعمل بدون إرادتنا وبدون تعاوننا وحريّتنا ومجهودنا اليومي، لأنَّ الخلاص هو عطيّة علينا أن نقبلها ونحرسها ونجعلها تثمر. يُظهر لنا الكتاب المقدّس وتاريخ الكنيسة أن كثيرًا ما يبدأ المختارون أنفسهم بالتفكير والاعتقاد والتصرّف كأرباب الخلاص ولا كمنتفعين منه، وكمتحكِّمين بأسرار الله ولا كموزِّعين متواضعين لها، كجمارك الله ولا كخدام للقطيع الذي أوكِل إليهم.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن سفينة الكنيسة قد عاشت وتعيش هذا العام أوقاتًا صعبة، وقد ضربتها عواصف وأعاصير، وكثيرون وجدوا أنفسهم يسألون المعلِّم، الذي كان يبدو نائمًا في الظاهر: "يا مُعَلِّم، أَما تُبالي أَنَّنا نَهلِك؟"، آخرون تفاجؤوا للخبر وبدؤوا يفقدون الثقة؛ وآخرون لم يخفوا استحسانهم لرؤيتها هكذا، ولكن كثيرون أيضًا لا يزالون يتمسّكون باليقين بأنَّ "أبواب الجحيم لن تقوى عليها".
كثيرة هي الآلام والصعوبات. كم من المهاجرين يواجهون الموت، أو كم منهم ينجون ولكنّهم يجدون الأبواب مغلقة وإخوتهم في البشريّة منهمكين في مكاسب سياسيّة وسلطة. كم من الأشخاص وكم من الأطفال يموتون يوميًّا بسبب نقص الماء والغذاء والدواء! كم من الدم البريء يسفك يوميًّا! كم من الوحشيّة تحيط بنا من جميع الجهات! في الواقع، نحن نعيش في فترة جديدة للشهداء ويبدو أن اضطهاد الإمبراطورية الرومانية القاسي والوحشي لم ينتهِ. كم من المسيحيين يعيشون اليوم أيضًا تحت ثقل الاضطهاد والتهميش والتمييز والظلم في العديد من أنحاء العالم! كذلك المثال البطولي للشهداء وللعديد من السامريين الصالحين، من جهة أخرى، لا يجعلنا ننسى فضائح بعض أبناء الكنيسة وكهنتها وشهادتهم السيئة. إنَّ الكنيسة قد التزمت بجديّة ومنذ سنوات عديدة من أجل اقتلاع شر الانتهاكات الذي يصرخ طالبًا الانتقام من الرب الذي لا ينسى أبدًا الآلام التي عاشها العديد من القاصرين بسبب إكليريكيين وأشخاص مكرّسين يمارسون سوء استعمال السلطة والضمير.
نجد اليوم أيضًا رجالاً مكرّسين يستغلّون الضعفاء ويستفيدون من سلطتهم الأخلاقية والاستدراج، فيرتكبون الفحشاء ويستمرّون في ممارسة كهنوتهم كأنَّ شيئًا لم يكن؛ لا يخافون الله أو حكمه، ولكنّهم يخافون فقط من أن يتمَّ كشفهم. كهنة يمزّقون جسد الكنيسة ويسببون الفضائح ويشوِّهون رسالة الكنيسة الخلاصية وتضحيات العديد من إخوتهم.
أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، ليكن واضحًا أنَّ الكنيسة، إزاء أمام هذه الأعمال القبيحة، لن تتوانى عن القيام بكل الضروري لتسلّم إلى العدالة كل من ارتكب هذه الجرائم؛ وبالتالي فالكنيسة لن تسعى أبدًا لتستِّر على أيّة حالة أو أن تستخفِّ بها. وفي شهر شباط فبراير المقبل ستعيد الكنيسة التأكيد على إرادتها الثابتة في الاستمرار، بكلِّ قوّتها، على درب التطهير.
إنَّ الكنيسة ستسأل نفسها، إذ ستستعين بخبراء أيضًا، حول كيفيّة حماية الأطفال وكيفيّة تحاشي هذه المآسي وكيفية الاعتناء بالضحايا وإعادة إدماجهم. كما سنسعى لتحويل الأخطاء المرتكبة إلى فرص لاقتلاع هذه الآفة ليس من الكنيسة وحسب وإنما من المجتمع أيضًا. لذلك فالكنيسة لن تكتفي بعلاج نفسها بل ستسعى لمواجهة هذا الشر الذي يسبب الموت البطيء للعديد من الأشخاص على الصعيد الأخلاقي والنفسي والإنساني. وللذين ارتكبوا تعديات جنسيّة على قاصرين أريد أن أقول: توبوا وسلِّموا أنفسكم إلى العدالة البشريّة واستعدوا للعدالة الإلهية متذكّرين كلمات المسيح: "أَمَّا الذي يَكونُ حجَرَ عَثرَةٍ لأَحدِ هؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنينَ بي فَأَولى بِه أَن تُعلَّقَ الرَّحى في عُنُقِه ويُلقى في عُرْضِ البَحْر. الوَيلُ لِلعالَمِ مِن أَسبابِ العَثَرات!".
إسمحوا لي الآن أن أتحدّث عن ألم آخر وهو عدم أمانة الذين يخونون دعوتهم وقسمهم ورسالتهم وتكرّسهم لله والكنيسة؛ والذين يختبؤون خلف النوايا الصالحة ليطعنوا إخوتهم ويزرعوا النميمة والانقسام؛ أشخاص يجدون مبررات على الدوام حتى منطقية وروحيّة ليستمروا في مسيرتهم على درب الضياع. في الواقع خلف زارعي النميمة هؤلاء نجد على الدوام "ثلاثين من الفضّة" لأننا سنجد على الدوام في الكنيسة "داود الخاطئ" و"يهوذا الإسخريوطي" بقدر ما يمثلان الضعف الذي هو جزء من كياننا البشري وهما أيقونتا الخطايا والجرائم المرتكبة من قبل الأشخاص المختارين والمكرّسين. وبالتالي من واجبنا جميعًا، لكي نجعل نور المسيح يسطع، أن نحارب كل فساد روحي الذي هو أسوء من سقطة الخاطئ لأنّه عمى مكتفٍ بذاته حيث يبدو كل شيء شرعي: الخداع والثرثرة والكبرياء والعديد من أشكال المرجعيّة الذاتيّة لأنَّ "الشَّيطان نَفْسه يَتَزَيَّا بِزِيِّ مَلاكِ النُّور".
أما الأفراح فقد كانت عديدة هذه السنة، على سبيل المثال نجاح السينودس المخصص للشباب، والخطوات التي تمَّ القيام بها حتى الآن في إصلاح الكوريا، القانون الجديد لدولة حاضرة الفاتيكان، مرسوم العمل في الفاتيكان. نذكر أيضًا الطوباويين الجدد والقديسين الحجارة الثمينة التي تزيّن وجه الكنيسة وتشعُّ في العالم الرجاء والإيمان والنور. ومن الواجب أن نذكر هنا التسعة عشر شهيدًا في الجزائر: "تسعة عشرة حياة بُذلت في سبيل المسيح وإنجيله والشعب الجزائري، أمثلة تقليديّة للقداسة، قداسة الأشخاص الذين يعيشون بقربنا.
داعٍ آخر للفرح، هو أيضًا العدد الكبير للمكرّسين والمكرّسات، أساقفة وكهنة يعيشون يوميًّا دعوتهم بأمانة وصمت وقداسة وتضحية. إنّهم اشخاص ينيرون ظلام البشريّة بشهادة إيمانهم ومحبّتهم. أشخاص يعملون بصبر ومحبّة بالمسيح وإنجيله لصالح الفقراء والمضطهدين والأخيرين بدون أن يسعوا للظهور على الصفحات الأولى للجرائد أو ليأخذوا المراكز الأولى. أشخاص تركوا كلَّ شيء وبذلوا حياتهم ليحملوا نور الإيمان حيث المسيح متروك وعطشان وجائع وسجين وعريان. أفكّر بشكل خاص بالعديد من كهنة الرعايا الذين يقدّمون يوميًّا المثال الصالح لشعب الله، كهنة قريبون من العائلات ويعرفون أسماء الجميع ويعيشون حياتهم ببساطة وإيمان وحماس وقداسة.
بالحديث عن النور والألم أردت أن أسلِّط الضوء على قيمة الإدراك الذي يجب أن يتحوّل إلى واجب سهر وحماية من قبل الذين يقومون بخدمة السلطة في هيكليات الحياة الكنسيّة والمكرّسة. من الضروري إذًا أن نفتح قلوبنا للنور الحقيقي، يسوع المسيح: النور الذي يمكنه أن يضيء الحياة ويحوِّل ظلماتنا إلى نور، نور الخير الذي يغلب الشر، نور المحبّة التي تتخطى الحقد، نور الحياة التي تدحر الموت، النور الإلهي الذي يحول كل شيء إلى نور، نور إلهنا: الفقير والغني، الرحيم والصالح الحاضر والخفي، الصغير والعظيم.
في كلِّ سنة يعطينا عيد الميلاد اليقين بأن نور الله لا زال يسطع بالرغم من بؤسنا البشري، اليقين بأن الكنيسة ستخرج من هذه المصاعب أجمل وأنقى وأبهى. لأنَّ جميع الخطايا والسقطات والشرّ المُرتكب من بعض أبناء الكنيسة لن يتمكّنوا من حجب جمال وجهها لا بل سيعطون البرهان الأكيد على أنَّ قوّتها لا تقوم فينا وإنما في المسيح يسوع مخلِّص العالم ونور الكون الذي يحبّها وبذل حياته في سبيلها! إن الميلاد يعطي اليقين أنَّ القوّة الحقيقية للكنيسة ولعملنا اليومي تقوم في الروح القدس الذي يقودها ويحميها عبر العصور محوِّلاً الخطايا إلى فرص مغفرة، والسقطات إلى فرص تجدد، والشر إلى مناسبة تطهير وانتصار.
إذاعة الفاتيكان.