عظة البطريرك الرَّاعي الأحد الثَّامن من زمن العنصرة «متفرقات
"هُوَذا عَبْدِي الَّذِي اخْتَرتُهُ" (لو 38:1)
1. يسوع هو عبد الله، الخادم الذي اختاره، ورضيَتْ نفسُه عنه، ومسَحَه بروحه. وأوكَلَ إليه رسالة التَّبشير بالحقّ، حتَّى يصل به إلى النَّصر، متَّبعًا نهج التَّواضع والوداعة: "فلا يماحك ولا يصيح، ولا يسمع أحدٌ صوته في الشَّوارع" (متى 19:12)، وغير متسلِّط ومعتدٍ على أحد: "قصبةً مرضوضةً لن يكسر، وفتيلاً مدخِّنًا لن يطفئ" (الآية 20).
رسالة المسيح هذه هي إيَّاها رسالة الكنيسة وكلِّ مسيحيٍّ. وقد قبِلنَاها بمسحة المعموديَّة والميرون. على كلِّ واحدٍ وواحدةٍ منَّا، وعلينا كجماعةٍ مسيحيَّة مؤمنةٍ بالمسيح، تنطبق نبوءة آشعيا: "هوذا عبدي الذي اخترتُهُ" (متى 18:12).
2. يُسعِدُني أن أحتفل معكم، يا شبيبة لبنان، بهذه اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة، هنا في بازيليك سيّدة لبنان ، بدعوةٍ من رئيسها عزيزنا الأب فادي تابت. فأُحيّ قدس الاب العام مارون مبارك وكلَّ الآباء المرسَلين اللُّبنانيِّين الذين عَهَدتْ إليهم البطريركيَّةُ خِدمةَ المزار منذ تأسيسه. أشكرُهُم على خدمتهم الرُّوحيَّة الرَّفيعة، وأُهنِّئُهم على جميع الإنجازات التي حقَّقوها من أجل خدمةٍ روحيَّةٍ أفضل وأشمل. إنَّه قدَّاس الشَّبيبة في كلِّ أحد وفي مثل هذه السَّاعة. كما اهنىء الجمعية بالكاهنين الجديدين ربيع عون واتيان حنا الذين رُقيا امس الى درجة الكهنوت المقدس.
3. إنَّكم ايها الشبان والشابات، مع كلِّ ما تحمِلون من هموم وقلق على المستقبل والمصير، بسبب الأزمات الحادَّة والخطيرة، السِّياسيَّة والإقتصاديَّة والماليَّة والمعيشيَّة، تصغون اليوم إلى الكلام الإلهيّ بلسان آشعيا النَّبيّ: أنتم حملة رسالةٍ هي إعلان نور الحقيقة في ظلمات لبنان وهذا المشرق: إنَّها حقيقةُ الله والإنسان والتَّاريخ، المنكشفة بشخص يسوع المسيح الذي به نؤمن. فهو كإلهٍ يَكشِف حقيقة جوهر الله الواحد والمثلَّث الأقانيم، الله – المحبَّة. فلولاه لظلَّ الله مجهولاً. وكإنسانٍ يَكشِف حقيقة الإنسان. ولولاه لظلَّ سرُّ الإنسان لغزًا، ودعوته في حياة الدنيا ضائعة. وبدخوله في تاريخ البشر، يجعله مسيرة نحو الخلاص الأبديّ، والتزامًا ببناء ملكوت المحبَّة والحقيقة والعدالة والحرِّيَّة والسَّلام.
4. بمناسبة الاحتفال بالمئويَّة الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، وقيام "ثورة الشَّباب" العفويَّة في 17 تشرين الأوَّل الماضي، وهي ثورةٌ عابرةٌ للمناطق والأديان والطَّوائف والمذاهب والأحزاب، أصدرتُ في 25 آذار الماضي رسالتي العامَّة التَّاسعة بعنوان: "الميثاق التَّربويّ الوطنيّ الشَّامل: شرعة الأجيال اللُّبنانيَّة الجديدة". هدف الميثاق دعوة الشَّبيبة اللُّبنانيَّة ومواكبتُها في الالتزام ببناء وطنٍ أفضل، هو بيتنا المشترك الذي يسمِّيه الدستور "وطنًا نهائيًّا لجميع أبنائه" (مقدِّمة الدستور، أ). وهدفه تكوين نخب وقيادات جديدة ومواطنين ناضجين، قادرين على تجاوز الانقسامات والخلافات، وإعادة شدّ نسيج العلاقات الوطنيَّة، من أجل الوصول إلى أنسنةٍ جديدة مميَّزة بالأخوَّة (الميثاق، فقرة 5).
يتبسَّط "الميثاق" في أهدافه وظروفه ورؤيته ورسالته وجهازه التَّنفيذيّ. وقد كلَّفنا سيادة أخينا المطران بولس الصَّيَّاح، نائبنا البطريركيّ العامّ السَّابق، بالإشراف على هذا الجهاز، وعيَّنَّنا الأب فادي تابت منسِّقًا بطريركيًّا له، وحدَّدنا لهما الصَّلاحيَّات.
5. طرحتُ في عظة الخامس من شهر تمّوز الجاري مشروع العمل على إقرار "نظام الحياد" كباب خلاص للبنان من عزلته المشرقيَّة والغربيَّة. فلقي الطَّرح تأييدًا واسعًا، وشكَّل مادَّةً للكثير من المقالات والحوارات والأفكار، سواء عبر وسائل الاتِّصال على أنواعها، أم عبر زيارات ووفود إلى الكرسي البطريركيّ في الدّيمان وبكركي. وقد وجد فيه معظم اللُّبنانيِّين منفذًا لنفقٍ كان مظلمًا سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا.
6. لقد أوضحتُ الكثير عن مفهوم "نظام الحياد الناشط والفاعل"، وكُتِب عنه الكثير. ولسنا بحاجةٍ الآن إلى إيجازها. وأودُّ هنا إضافة بعض الأفكار.
اذا عدنا الى بيانات الحكومات المتتالية من سنة ١٩٤٣ الى ١٩٨٠، نجد في كل واحد منها اعتماد "حياد لبنان وعدم الانحياز" وتعزيز علاقات الاحترام المتبادل للسيادة والتعاون بعيدًا عن اي دخول في احلاف ونزاعات وصراعات اقليمية ودولية.
"نظام الحياد" يحمي مصير لبنان من الضَّياع في لعبة الأمم، ومن أخطار العبث بهويَّته ونظامه. كما أنَّه التَّرجمة السِّياسيَّة والدُّستوريَّة والسُّلوكيَّة للاعتراف بنهائيَّة لبنان. إنَّا بطرحه نبغي أنقاذ شعبٍ ووطن. فهو ليس موقفًا عابرًا تجاه نزاعٍ آنيّ، بل هو فلسفة وجودٍ وثقافة حياة، ونظام سلامٍ ووحدةٍ واستقرار.
مطلوب أن لا يأخذ أحدٌ موقفًا من نظام الحياد انطلاقًا من انتماءاته الطَّائفيَّة أو المذهبيَّة أو الحزبيَّة أو المناطقيَّة، بل من انتمائه للبنان المحايد اصلًا قي ممارسته كدولة. والمطلوب أخذ موقف من "نظام الحياد" انطلاقًا من موقع لبنان في الشَّرق الأوسط والعالم.
"نظام الحياد" هو مسؤوليَّة الدَّولة الضَّميريَّة والوطنيَّة. فالانحياز أهلَكَهَا، أمَّا الحياد فيُنقذها.
يا شبيبة لبنان،
7. "الميثاق التَّربويّ الوطنيّ الشَّامل" ومشروع "نظام حياد لبنان" هما في عهدتكم وبرنامج "ثورتكم".
نصلّي إلى الله، بشفاعة أمِّنا مريم العذراء سيِّدة لبنان والقدِّيس شربل في يوم عيده، أن يحقِّق الأمنيات، ويمنحنا نعمة الأمانة لدعوتنا ورسالتنا كشهودٍ للحقّ حتَّى انتصاره، لمجد الله الثَّالوث القدُّوس الآب والابن والرُّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي