عظة البطريرك الراعي مع بداية السنة الطقسية «متفرقات
1. بنى الربّ يسوع كنيسته على صخرة الإيمان الذي أعلنه سمعان - بطرس في قيصريّة فيليبس. فلمّا سأل يسوع عن تلاميذه، الذين عايشوه وسمعوا كلامه ورأوا آياته: "وأنتم مَن تقولون إنّي أنا ابن البشر؟" (الآية 15)، أجاب سمعان - بطرس: "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ". هذه هي صخرة الإيمان المسيحيّ المبنيّة عليها كنيسة المسيح، وقد أرادها "سرّ الخلاص الشامل" لجميع الشعوب وللبشريّة جمعاء. هذه الكنيسة لن تقوَ عليها قوى الشّر، أأتتها من الخارج أم من الداخل، لأنّ المسيح والإيمان به هما "رأس الزاوية".
2. نعلن إيماننا هذا بالمسيح اليوم، ونحن في الأحد الأوّل من تشرين الثاني، وهو بداية السنة الطقسيّة 2015-2016، ويتزامن مع عيد جميع القدّيسين. وفيه نحتفل بيوم التّعليم المسيحيّ في الشَّرق الأوسط الذي تنظّمه الهيئة الكاثوليكيّة واللَّجنة الأسقفيّة للتّعليم المسيحيّ، بموضوع "بالرّحمة وبالرّأفة يكلّلنا" من المزمور 103، على أن يتمّ إحياؤه في المدارس طيلة الأسبوع.
كما نحتفل أيضًا مع مؤسّسة Apostolica بعيدها وهي حاضرة معنا، وتُحيي هذا الاحتفال، وعلى رأسها مؤسّسها ورئيسها سيادة أخينا المطران عاد أبي كرم، مطران أبرشية سيدني-أوستراليا السابق، والعاملين الملتزمين برسالتها الرامية إلى مساعدة مسيحيي الشرق الأوسط في قراءة الإنجيل قراءة متجدّدة حيال التحديات المُعاصرة، لاستشراف آفاق جديدة من خلال حضورهم حضورًا فاعلًا ومتفاعلًا في محيطهم، وتعتمد هذه المؤسّسة آلية ً لعملها الثقافة الرقميّة، والتّعليم عن بُعد، بالتعاون مع بعض الجامعات.
وفيما نرحّب بكم جميعًا ونُحيّيكم، نُعرب عن ألمنا لضحايا الطائرة الرّوسيّة التي سقطت أمس على أرض سينا، بعد إقلاعها من شرم الشيخ في مصر. ونُعرب لسعادة السفير الرّوسيّ عن مواساتنا وتضامننا بالصّلاة مع أهلهم، راجين أن ينقلها إليهم وإلى السّلطات المدنيّة وإلى قداسة البطريرك كيريل، بطريرك موسكو وكلّ روسيا.
3. اليوم أحد تقديس البيعة، وبداية السّنة الطقسيّة الجديدة. وفيها نُعلن مسيرتنا الروحيّة بإيمان بطرس الرّسول: "أنت المسيح ابن الله الحيّ" (متى 16: 16).
السنة الطقسيّة بأزمنتها هي على شبه السنة الشّمسيّة بفصولها. فكما تدور الأرض، على مدى سنة حول الشّمس، وتأخذ النّور والحرارة من أجل الحياة، بشرًا وحيوانًا ونباتًا، كذلك الكنيسة، تدور، على مدى سنة حول المسيح شمسها، وتأخذ منه نور الكلمة، وحرارة نعمة الخلاص والفداء، لكي تعيشَ حياتها الجديدة النّابعة من الآب بالرّوح القدس.
وكما السنة الشّمسيّة تتألّف من أربعة فصول خريف وشتاء وربيع وصيف، كذلك السّنة الطقسيّة تتألّف من أربعة أزمنة أساسيّة تتضمّن كلّاً من سرّ التّجسّد (زمن الميلاد)، وسرّ الفداء (زمن الآلام والموت والقيامة)، وسرّ التّقديس (زمن حلول الرّوح القدس والعنصرة)، وسرّ الواقعات الجديدة في نهاية الأزمنة (زمن الصّليب). يُضاف إليها زمن الدّنح والتّذكارات والصّوم الكبير التي تندرج كلّها في إطار سرّ التجسّد.
4. واليوم أوّل تشرين الثاني عيد جميع القدّيسين الذين يتلألأون في كنيسة السّماء الممجّدة. ونحن المؤمنون على الأرض نستشفعهم ونقتدي بمَثَلهم، من أجل تقديس كنيسة الأرض المجاهدة. القدّيسون هم الذين آمنوا بالمسيح مخلّصًا وفاديًا، فاستناروا بكلمة الإنجيل وتعليم الكنيسة، وتقدّسوا بنعمة الأسرار، وقبلوا الروح القدس الذي ملأ قلوبهم من المحبّة لله وللنّاس، فشهدوا له بالأعمال والمواقف والمبادرات.
لقد عاشوا البنوّة لله، وأصبحوا من "عائلة الله".
في عيدهم يذكّروننا أنّنا كلَّنا مدعوّون لنكون "أبناءً لله"، وبالتالي للسَّير في طريق القداسة بقوّة الكلمة والنعمة والمحبّة، النابعة كلّها من قداسة الله. ويعلّموننا أنّ القداسة هي السّعي الدّائم لعيش المحبّة تُجاه الله والنّاس، والتماس الرّحمة الإلهيّة، والجوع إلى غذاء الإنجيل، والعمل المُتضامن من أجل العدالة والسّلام، والتوبة الدّائمة إلى الله باعتراف متواضع ومنسحق بالخطايا، وقبول بالآخر المختلف والمُعاكس.
5. واليوم أيضًا تحتفل الرّعايا بيوم التّعليم المسيحيّ، والمدارس بأسبوعه، على مستوى الشَّرق الأوسط. اختارت اللّجنة المعنيّة موضوعها من كلمة المزمور 103: "بالرّحمة والرّأفة يكلّلنا"، مستوحية إيّاه من يوبيل "سنة الرّحمة" الذي أعلنه البابا فرنسيس ويبدأ في 8 كانون الأوّل المُقبل. الرّحمة هي من صميم طبيعة الله الرّحوم الحنون، الذي يمتلئ قلبه مشاعر أبويّة لجميع النّاس. وهي مشاعر تنبع من عمق أحشائه. فلفظة "رحمة" تنبع من "رَحِم" المرأة، حيث مصدر مشاعر الأمومة عندها.
6. عالمُنا بحاجة إلى رحمة، وقد ازدادت فيه ضحايا الحقد والبغض والنزاعات والحروب والتشريد والخطف والاعتداءات على الحياة البشريّة وعلى المواطنين. العائلة تحتاج إلى رحمة، والمجتمع يحتاج إلى رحمة، و الكنيسة تحتاج إلى رحمة، والدولة تحتاج إلى رحمة من المسؤولين السياسيّين والإداريّين.
لقد بلغت الدولة اللبنانية حالة تنذر بالانهيار الكامل، بسبب قساوة قلوب كلّ الذين تقع عليهم، سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، مسؤولية إحداث الفراغ في سدّة الرّئاسة الأولى منذ سنة وستّة أشهر، وبالتالي تعطيل عمل المجلس النيابيّ، وشلّ مهمّات الحكومة، وإغراق البلاد في النفايات، وقهر المواطنين، وتجويعهم، وتهجيرهم، وحجب رواتب العسكريّين، وإهمال مطالب المتظاهرين المحقّة وحملتِهم ضدّ الفساد وسرقة المال العامّ وحلّ قضيّة النفايات التي تشوّه وجه لبنان الطبيعيّ والثقافيّ. وإنّا نحيّي جمعيّات الناشطين البيئيّين ولاسيّما "فرح العطاء" على المبادرة في توضيبها، وتجنيب الأهالي وباءها.
7. بلدان الشّرق الأوسط فلسطين والعراق وسوريا واليمن وسواها، بحاجة إلى رحمة، تدخل قلوب حكّام الدول، محلّيًا ودوليًّا، فيوقفوا الحرب، ويكفّوا عن تجارة السّلاح، وعن مساندة المنظّمات الإرهابيّة، ويبحثوا بروح المسؤوليّة والتجرّد عن الحُلول السلميّة السياسيّة للنزاعات، ويوطّدوا السّلام العادل والشّامل والدائم على أسس ثابتة، ويعملوا جاهدين على إرجاع النّازحين والمهجَّرين والمَخطوفين إلى بيوتهم وأراضيهم ومُمتلكاتهم، والتّعويض عن خسارتهم، وضمانة حقوقهم كونهم مواطنين.
8. لقد تجلّت لنا رحمة الله، بل أخذت جسدًا بشريًّا بشخص يسوع المسيح، فانحنى على جراح البشريّة وكلِّ إنسان فشفاها ببلسم نعمته، وانحنى على خطايانا فغفرها بدمه المُراق على الصّليب، وانحنى على أمراضنا وأوجاعنا وضمّها إلى آلامه، وجعلها أداة خلاص وفداء. وانحنى علينا في ظلمة الضياع وأنارنا بنور شخصه وكلامه وآياته. ودعانا لنفعل كذلك: "كونوا رحومين، كما أبوكم السّماوي رحوم هو" (لو6: 36).
9. إنّ الزواج والعائلة، اللذين كانا موضوع جمعيّة سينودس أساقفة الكنيسة في روما برئاسة قداسة البابا فرنسيس طيلة ثلاثة أسابيع من الشّهر الفائت، هما المدرسة الطبيعيّة الأولى للرّحمة، وللإيمان بيسوع المسيح، وللصّلاة. وما صدر عن هذه الجمعيّة من تعليم للعقيدة ولروحانيّة الزواج والعائلة، ومن توجيهات راعويّة خاصّة بهما، سيكون برنامج عملنا في الأبرشيات والرعايا، بالتعاون مع مطارنتها وكهنتها ورُهبانها وراهباتها والمؤمنين. فلا ننسى أنّ العائلة المسيحيّة "كنيسة بيتيّة"، مبنيّة هي أيضًا على صخرة إيمان أعضائها. وبفضل هذا الإيمان هي منيعة بوجه الصّعوبات الماديّة والروحيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة، فلا تقوى عليها، ولا تنال من وحدتها. فالكنيسة مُتضامنة معها ومسانِدة لها.
10. بكلّ هذه الاستعدادات نبدأ السنة الطقسيّة الجديدة، في رحاب أمّنا الكنيسة. نسير على نور المسيح، تظلّلنا محبّة الآب، وتهدينا إلهامات الرّوح القدس. للإله الواحد والثالوث كلّ مجد وتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.