طعامي أن أعمل بمشيئة أبي «متفرقات




طعامي أن أعمل بمشيئة أبي



يُفاجئنا إرميا النبيّ بالبوح بمُعاناته في علاقته مع الله، فيُناجيه بلغةٍ تحمل عتابًا شديدًا عليه واستياءًا مريرًا منه (إر20/ 7-9). يشعر إرميا بأنّ الله قد خدعه وأغواه بإلحاحه فأوقعه في ورطةٍ لا مهرب منها، حتّى غدا "أضحوكة ً" للجميع، وغدا كلامُ الرّبّ الذي كان له فيما مضى "سُرورًا وفرحًا" "عارًا وسُخرةً النهار كلّه".


لقد أصبحت كلمة الله في حياة هذا الرّجل "كالنّار والمطرقة التي تحطّم الصّخر" بل أمسى الله في قلبه "كنارٍ مُحرقة حُبِسَت في عظامه" تُحرقه ولا "يقوى على احتوائها"؛ لقد بات الله هو وكلامه المرجع المُقلق وما يعكّر الأجواء ونوعًا من الطّاغية المتقلّب الذي يجعل النبيّ غريبًا عن نفسه وعن أبناء جنسه.


فهل يبقى أمام إرميا والحالة هذه إلاّ أن يقول بوعيٍ وتصميمٍ: "لا أذكره ولا أتكلّم باسمه من بعد"؟!


ولكن ما الذي يريده الله في العمق يا تُرى، وإن كان ما يريد هو الحبّ والخير والحقّ فلم كلّ هذه المعاناة في حياة هذا الإنسان؟ لا بدّ لنا هنا من النّظر إلى يسوع، فهو وحده يمكنه أن يُنيرَنا ويكون لنا الجواب الوافي.


في الواقع، يُجسّد لنا يسوع، كلمة الله الابن الوحيد، بحياته قبل أقواله، لا إرادة الله بأدّق تفاصيلها وحسب: "طعامي أن أعمل بمشيئة أبي" (يو 4/ 34 )، بل أيضًا المعاناة المتجسّدة بحدّ ذاتها: "يجب عليه أن يعاني آلامًا شديدة ويُقتَل"! (متى 16/ 21 ). فتتميم إرادة الله بالنسبة إليه يعني بذله ذاته حتى آخر قطرة من أجلنا بكلّ ما يرافق فعل المحبّة هذا من غُربةٍ ومُعاناةٍ وموتٍ مشين.


أمّا بذل الذات حبًّا فيتطلّب منه "الزهد بنفسه وحمل صليبه وفقدان حياته" (متى 16/ 24)، وهذه أمورٌ لا يستطيع عيشها إلّا مَن راح يسعى بجدّية للخروج من ذاته، متحوّلاً يومًا فيومًا من إنسانٍ يحيا لأجل ذاته إلى إنسانٍ يحيا من أجل الآخرين. بيد أنّ الإنسان الغارق في ذاته والمنغلق عليها يخشى كثيرًا من هذا الخروج؛ ويمكننا فهمه!


فالخروج يتطلّب مُعاناةً وألمًا في الذّهاب بعكس حبّ الذات القاتل والإدمان المُستشري على الأنا. هل نستغرب ردّ فعل بطرس والحالة هذه على إعلان يسوع عن آلامه وموته؟! (متى 16/ 22) إن أفكار هذا الرّجل هي فعلاً "أفكار النّاس لا أفكار الله"، ومحاولته تثني يسوع عن عزمه على مقاساة الآلام والموت حبًّا لأجل الناس، تحوّل من الصّخرة التي تتحطّم عليها أبواب الجحيم إلى "شيطانٍ" لا يُمكن إلاّ زجره ومتابعة الطريق إلى الأمام. (متى 16/ 23 ).


لقد أدرك بولس حقيقة مُعاناة الحبّ هذه ورفض الإنسان المُخزي لها، فلم يعد بإمكانه إلّا أن يناشدنا "بحنان الله" كي لا نتشبّه بهذه الدنيا، بل أن نتبدّل، باستمرارٍ، بتجديد عقولنا، لنميّز ما هي مشيئة الله: أن نقرّب أنفسنا - بقرارٍ لا عودة عنه - "ذبيحة ً حيّة مقدّسة مرضية عند الله". (رو12/ 1 ).


لكم تشوّق يسوع ليشعل هو بنفسه نار هذه الذبيحة الطيبّة العَرف بعد أن تركها تحرقه وتلهب قلبه إلهابًا، عساها تتمكّن، فيما لو أردنا بملء حرّيتنا، من أن تحرق حبّ الذّات الخشبيّ، فتطهّر جوهر الإنسان مخرجة ً إيّاه من ذاته ومحرّرةً نار محبّته المحبوسة في عمق أعماقه، فيتحوّل باستمرارٍ إلى إفخارستيّا حيّة تمجّد الآب وتملأ بالفرح القلوب الكسيرة!


الأب غسّان السهويّ اليسوعيّ.