طبيعة محبّة القدّيس شربل لله «متفرقات
المحبّة الإلهيّة التي تأجّجت في قلب القدّيس شربل طوال حياته الرهبانيّة والنسكيّة، كانت صدى لجواب السيّد المسيح على السؤالِ الذي وجهّه إليه أحد علماء الناموس مجرّبًا إيّاه: "يا معلّم، ما هي أعظم الوصايا في الناموس؟". فأجابه يسوع: "أحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك، وكلّ نفسك، وكلّ ذهنك، وكلّ قوّتك. هذه هي الوصيّة العظمى الأولى" (متى 22/ 36 ـ 38).
فالقدّيس شربل أحبّ الله بكلّ قلبه، كلّ نفسه، وكلّ قوّته، وقد أحبّه لأجل ذاته فقط، أي نظرًا إلى صفاته الإلهيّة، وكمالاته السامية، وجودته الصمدانيّة الحاوية كلّ جمال، والجامعة كلّ كنوز الحكمة والعلم. فطبيعة محبّة القدّيس شربل لله كانت محبّة استئثاريّة، أي أنّ الدافع إليها هو حبّ الله وحده، وفوق كلّ شيء.
محبّة الله الاستئثاريّة تتميّز عن غيرها بهذه الصفات:
إنّ مَن يحبّ الله حبًّا استئثاريًّا لا يعود يباشر عملًا إلّا ويكون فيه رضى الله. فيُصبح كلّ شيء له خيرًا نافعًا لأنّه يطابق إرادة الله القدّوسة. إنّ مَن يحبّ الله حبًّا استئثاريًا يفضّل أن يضحّي بكلّ ما لديه، بل الأحرى به أن يفقد الحياة من أن يُهين الله بسخطه بارتكابه خطيئة واحدة مميتة.
إنّ من يحبّ الله حبًا استئثاريًّا يكون على استعداد دائم أن ينفصل عن الأهل والأقارب، ويبتعد عن أعزّ الناس لديه، إن وجد في قربهم سببًا لإخماد نار الحبّ الإلهي في قلبه. والأجدر في أن يضحّي برغباته، وصحّته، لا بل بحياته عينها، إن اقتضى الأمر، مِن أن يتقاعس عمّا يطلبه الله منه تتميمًا لإرادته القدّوسة. وهذا ما أشار إليه السيّد المسيح بقوله في الإنجيل: "مَن أحبّ أبًا أو أمًّا، أو ابنًا، أو بنتًا أكثر منّي فلن يستحقّني، ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلن يستحقّني. ومن وجد نفسه يهلكها، ومن أهلك نفسه من أجلي يجدها" (متّى 10/ 37ـ 39).
هذه المحبّة الاستئثاريّة هي التي سيطرت على قلب القدّيس شربل وعواطفه منذ أن هجر العالم، وانضوى إلى الحالة الرهبانيّة في دير مار مارون ـ عنّايا، وبعد أن انزوى في محبسة مار بطرس وبولس التابعة لدير عنّايا. فالله عنده هو المحبوب الأوّل، والمعبود الأوحد، والكائن المفضّل على جميع الكائنات.
وهذا ما تميّزت به محبّة القدّيس شربل لله تعالى. فالله كان عنده فوق كلّ شيء وقبل كلّ شيء: قبل امتلاك الثروات، قبل التمتّع بالصحّة والعافية، قبل الراحة والاطمئنان، قبل الفوز والانتصار، قبل التقدّم والرفاهيّة، قبل الخلائق والأشياء، وقبل العالم أجمع. أحبّ الله فوق كلّ شيء، ولم يُحبِب أحدًا شيئًا إلّا في الله، ولأجل الله.
كان القدّيس شربل لا يُبالي براحته، ولا يفكّر إلّا بإرضاء الله مهما كلّفه الأمر من مشقّات. فهو كان يحبّ كلّ ما يحبّه يسوع حبيبه، ويُبغض كلّ ما يبغضه هو. ولم يكن يرغب شيئًا في العالم سواه، ولم يلتمس طوال حياته سوى مرضاة ربّه، وأن يبقى ثابتًا على محبّته في جميع حالات الحياة.
ومحبّته هذه تخطّت المشاعر والعواطف إلى العيش والعمل الشاقّ بإرادة الله. وهذا ما أشار إليه يوحنّا الرسول بقوله: "فبهذا نعلم أنّا نحبّ الله بأن نكون محبّين الله وعاملين بوصاياه، لأنّ هذه هي محبّة الله أن نحفظ وصاياه. ووصاياه ليست بثقيلة" (1 يو 5/ 2 ـ 3). وأولى الوصايا التي حفظها القدّيس شربل هي محبّته الفائقة لله.
وقد تجلّى ذلك في عباداته الحارّة له، وفي السجود والخضوع لعظمته، وفي تقديس اسمه، وفي حمل جميع الخلائق على تمجيده وحمده. ولم يكن يتحمّل إهانة توجّه إلى العزّة الإلهيّة دون أن يذوب حسرةً وغمًّا، ودون أن يقطر قلبه دمًا.
فالإهانات، والتجاديف، والمعاصي المرتكبة ضدّ عدل الله ومحبّته، كانت كسهم حادّ يخترق أحشاءه، ويطعن فؤاده، فتسيل الدموع سخيَّة من عينيه، وهذا هو سبب ذرف الدموع لدى احتفاله بالذبيحة الإلهيّة.
فيستغفر الله ويضطرم عندئذٍ غيرة وشوقًا لأن يقدّم ذاته لله مع كلّ أعماله ضحيّة وكفّارة. وكان لسان حاله يقول مع القدّيسة تريزيا الطفل يسوع: "آه، لو أمكنني أن أشعل قلوب جميع البشر وأُلهبها بنيران محبّة الله".
من كتاب" روحانية القديس شربل"
الأب بولس صفير