زمن المجيء ما هو إلاّ رغبةٌ وتوق «متفرقات





زمن المجيء ما هو إلاّ رغبةٌ وتوق


"زمن المجيء ما هو إلاّ رغبةٌ"، اعتاد أبٌ يسوعيّ طاعنٌ في السنّ على قول هذه العبارة كلّ عامٍ عندما يُشارف شهر تشرين الثاني "نوفمبر" على الانتهاء. وكلّما تفوّه بها، أُعلّق ساخرًا دون أن أعي عمق هذه العبارة.


ولكن مع مرور الزمن، اتّضح لي الأمر تدريجيًّا. إذ يرغب المسيحيّون بمجيء المسيح إلى حياتهم بطرقٍ جديدةٍ، وترتفع وتيرة هذه الرّغبة خلال زمن المجيء. تُتلى على مسامعنا في هذا الزمن الليتورجيّ قراءاتٌ جميلةٌ من سفر أشعيا النبيّ، يصف فيها توق العالم لحضور الله فيما بينهم، صلواتٌ رائعةٌ تُرتل عشيّة عيد الميلاد، تُحدّثنا عن المسيح وتصفه بـ: "ملكُ الأمم وغاية أمانيها".


وتعكس القراءات الإنجيليّة، التّي تُتلى تباعًا في أسابيع زمن المجيء حول شخص يوحنّا المعمدان، آمال الشّعب اليهوديّ بالمسيح المُنتظر، وكذلك الأمر كلّ ما يجول في قلب مريم ويوسف وتوقهما لولادة الابن المنتظر. لقد كان صديقي العجوز مُحقـًا؛ فزمن المجيء ما هو إلاّ رغبةٌ.


ولكن ثمّة مشكلةٌ عويصةٌ لكلمة "رغبة": إذ إنّ لها وقعًا سلبيًّا في بعض الأوساط المتديّنة. فعندما يسمع أحدنا هذا المصطلح "الرّغبة" يتوارد إلى ذهنه معنيان، هما: إمّا الغريزة الجنسيّة، أو الحاجات الماديّة، وهما في مرمى الإدانة من قبل القيادات الدينيّة غير المتبصّرة على اختلافها. فالأولى "الغريزة الجنسيّة"، هي من أعظم العطايا الّتي منحها الله للبشريّة، ومن دونها ستؤول البشريّة إلى الانقراض. أمّا الثانية "الحاجات المادّيّة"، فهي جزء لا يتجزّأ من دافعنا لنعيش حياةً كريمةً كالمأكل، والمشرب، والملبس، والشعور بالأمان.


قد تكون الرّغبة عائقـًا لدى البعض في حياتهم الروحيّة. إنّ أحد الكتب الروحيّة المفضّلة لدي هو: "رياضات إغناطيّة مُنقّحة" وقد وضعته ثلاثُ راهباتٍ. يُوصي القدّيس إغناطيوس دي لويولا في نسخة كتاب "الرّياضات الروحيّة" الأصليّة، مرارًا وتكرارًا بأن أُصلّي من أجل "ما أريده وما أرغبه"؛ أن أرغب في علاقةٍ وثيقةٍ مع الرّبّ، أو الحصول على نعمةٍ مُعيّنةٍ أثناء فترة التأمّل على سبيل المثال.


لاحظت الكاتبات بحدسهن، أنّ هذا الأمر قد يشكّل عائقـًا بالنسبة إلى النّساء؛ إذ تشعر أغلب النساء أنّ اهتمامهنّ برغباتهنّ لهو ضربٌ من الأنانيّة، ويتوجّب عليهنّ ألّا يحترمن رغباتهنّ إذا ما أردن أن يكرّسن ذواتهنّ لله. تحثّ الكاتبات النساء على مقاومة هذا الميل السلبيّ تُجاه رغباتهنّ، وتشجعهنّ على التنبّه لها وتسميتها، واعتبار هذه الرّغبات خاصّتهن.


لكن، لماذا كلّ هذا التّوكيد على الرّغبة؟ لأنّ الرّغبة ببساطة، هي اللّغة التي يتحدّث بها الرّبّ معنا، سواء أكان ذلك في زمن المجيء، أو في أزمنةٍ أُخرى. فرغباتنا المقدّسة هي عطايا الله من علُ.


تختلف الرغبات الرّوحيّة عن الحاجات السطحيّة، فالأخيرة تجعلني أقول على سبيل المثال: "أُريد أي فون جديد" أو "أريد مكتبًا أكبر"، عوضًا عن البوح عن رغباتي الداخليّة العميقة. إذ أنّ الأخيرة هي الّتي تُشكّل حياتنا وتكوّنها، فتساعدنا معرفتها على أن نُدرك إلى أين نصبو وما الذي يمكننا أن نقوم به اليوم للوصول إلى تلك الغاية.


بمعنًى آخر، معرفة مشيئة الله لنا، ورغبته بأن يكون معنا، فهو يشجّعنا على التّنبه لرغباتنا وتسميتها، تمامًا كما فعل المسيح مع الأعمى الشحاذ "برتيماوس" الجالس على قارعة الطريق فسأله: "ماذا تريدني أن أفعل لك؟ فأجابه الأعمى: يا ربّ، أن أُبصر". (لوقا 18: 41).


ونتساءل، لماذا سأل المسيح برتيماوس سؤالاً ساذجًا كهذا؟ ويسوع كان يعلم أنّ الرّجل أعمى! قد قام يسوع بذلك لسببين: الأوّل، لأنّه أراد أن يعرض عليه حرّيّة الطلب، ألّا يسلب الرجل كرامته ويختار عنه. والثاني، لأنّ يسوع يعلم أنّ إدراكنا لرغباتنا يوصل بنا لإدراكنا لرغبات الله ومشيئته لنا.


فتوقنا ورغباتنا هي التي تُساعدنا على معرفة ذواتنا، وهي التي تُحرّرنا بدورها لنقول: "هذا ما أرغبه في الحياة". وعلاوةً على ذلك، تُساعدنا تسمية رغباتنا وتحديدها في شكر الله عليها لاحقـًا عندما يهبنا ما نرغب به ويتمّمه.


فالله يتحدّث إلينا مباشرةً من خلال رغباتنا، يذكر القدّيس إغناطيوس في كتاب الرياضات الروحيّة: "يتعامل الخالق مباشرةً مع خليقته" فالله يتمّم مشاريعه من خلال الرّغبات التي زرعها فينا وينتظر منّا اكتشافها وتحقيق ملكوته من خلالها.


في بعض الأحيان، قد تفقد الرّغبة في أمرٍ ما سبق وأن أردته ورغبت به. فلنقل أنّك تعيش في وسطٍ مُريحٍ وعلى احتكاكٍ ضعيفٍ مع الفقراء. قد تقول لذاتك: "أنا أعلم أنّه من المُفترض أن أرغب بحياةٍ بسيطةٍ وأن أعمل مع الفقراء، ولكنّني لا أمتلك الرّغبة في القيام بذلك الأمر". لربّما تعلم أنّه يتوجّب عليك أن تكون أكثر كرمًا، وأكثر حُبًا، وأكثر غفرانًا، ولكنّك لا تملك الرغبة فيها. وتتساءل في قرارة نفسك: كيف أستطيع أن أُصلّي من أجل هذه الرّغبات بصدقٍ وشفافيةٍ؟


يُجيب إغناطيوس على هذا التساؤل بسؤالٍ ثانٍ: "هل يسكنك على الأقل الرّغبة بأن ترغبها؟" حتّى وإن لم تردها، هل تُريد أن تُريدها؟ هل تتمنّى أن تكون على مثال الشّخص الذي يُريد هذه الرّغبات؟ يمكنك أن تعتبر هذا التساؤل بحدّ ذاته دعوةً من الله. إنّها طريقةٌ أُخرى لنستشفّ مشيئة الله وإن كانت تولّد في داخلنا أثرًا بسيطًا رقيقـًا.



الرّغبة هي مفتاحنا في حياتنا الروحيّة، لأنّها القناة التي يبثّ من خلالها الله صوته "مشيئته" إلى عالمنا. وأعمق هذه الرّغبات قد زُرعت في قلوبنا، إنّها الرّغبة في مجيء مُخلّصنا يسوع المسيح، ليكون عمّانوئيل، ليكون الله معنا.


الأب جيمس مارتن اليسوعيّ