زكّا مثال الباحث عن ملكوت الله «متفرقات
يسوع يدخل أريحا في طريقه نحو أورشليم (لو 19/ 1- 10). أريحا بوابة الأرض المقدّسة، منها دخل الشّعب إلى الأرض بقيادة يشوع بن نون (يش 6). ويسوع إبن مريم يدخل الأرض مجدّدًا، يقود كنيسته، شعب الله الجديد، الأمّة المقدّسة السّائرة نحو أورشليم السّماويّة.
الأعمى يصرخ "يا ابن داود ارحمني" وينال الخلاص، ولكن زكّا يبقى صامتاً، يراقب، يتحيّن الفرصة. مثل كلّ واحد منّا يعلم أنّه خاطئ. مثلنا أحياناً، يفكّر في ما سوف يقول عنه الآخرون إن اقترب نحو يسوع، فهو من كبار جُباة الضرائب، يخافه الآخرون ويحتقره الفريّسيّون، هو الخاطئ في نظرهم.
يفكّر أيضًا، ماذا يقول عنه الرّب؟ مثلنا يخاف حكم الله، يظنّ نفسه هالكاً، ومثلنا أيضًا، تبقى في قلبه ذرّة رجاء، حالم بخلاص الله، طامع بلمسة من يسوع تشفي يأسه.
مثلنا أيضًا، يجد نفسه قصير القامة، لا يقدر أن يرى السيّد بسبب قامته، أي بسبب عجزه الطبيعيّ عن الوصول إلى معاينة الله، وبسبب خطيئته أيضًا، خطيئة تمنعه من الإقتراب، وبسبب الآخرين لا يعاين يسوع.
قصر قامة زكّا هي صورة عن عدم قدرة طبيعتنا الإنسانيّة على الدّخول في علاقة مع الله المختلف عنّا بطبيعته: كيف يمكن للإنسان أن يعرف الله وأن يدخل في علاقة معه؟ كيف يمكن لطبيعة مائتة أن تُلاقي الأبديّ؟
وقصر القامة أيضاً هي صورة عن الخطيئة التي تمنعنا من قبول الرّب. الخطيئة هي رفض لله ولوجوده في حياتنا. لا يُمكننا أن نختار الله والخطيئة.
ولكن قصر قامة زكّا ما كانت لتمنعه من رؤية المخلّص لو لم يحجب الآخرون المسيح عن ناظريه. هي أيضاً صورة كلّ واحد منّا حين يجد نفسه خارج الجماعة، مهمّشًا، موضوعًا في خانة ما يقرّرها المجتمع. وأحياناً نكون واحداً من أولئك الّذين يمنعون الآخرين من رؤية المسيح.
ولكن قصر قامتنا لم يكن عائقاً أمام المسيح، ولا أمام زكّا:
فالله ألغى الحاجز بين طبيعته الإلهيّة وطبيعتنا الإنسانيّة بتجسّد المسيح، فالمسيح الإله والإنسان صار وسيلة لقاء بين الطبيعتين، وصار بإمكاننا العودة إلى علاقة البنوّة الإلهيّة. الشّجرة التي صعد إليها زكّا هي شجرة الحياة المزروعة في وسط الجنّة، حيث كان الإنسان يحيا في علاقة حبّ مع الآب، علاقة جدّدها المسيح بتجسدّه.
ولأنّه أب يحبّ كلّ واحد منّا، لم تعد للخطيئة قوّتها القاتلة، فبموت الرّب تكفيرًا عن خطيئتنا أعادنا الى صداقتنا مع الآب. أعطانا سرّ المغفرة، سرّ المصالحة مع الله. الشّجرة التي تسلّقها زكّا ليعاين الله، هي شجرة الصّليب التي عُلِّق عليها المسيح، ثمرة الحياة، ليعطينا الغفران والحياة الجديدة.
ولأنّ خلاص الله هو نعمة تُعطى من حنان الآب، ولكنّها تتطلّب قبولنا وجهادنا، فالرّب يطلب منّا المشاركة، يطلب منّا تخطّي العوائق التي تمنعنا من الوصول إليه، يطلب منّا أن نصنع كما زكّا، نجد الوسيلة التي تجعلنا نبصر المخلّص رغم العوائق.
يدعونا المسيح ألاّ نسمح لعوائقنا الجسديّة، والنفسيّة والروحيّة والإجتماعيّة أن تكون حاجزًا يحول دون وصولنا إلى الخلاص. لقد تسلّق زكّا الشّجرة، فتّش عن مخرج، لم يسمح لعائقه الجسديّ، ولا لعقدة نقصه حيال الفرّيسيّين، ولا للخطايا التي اقترفها في ماضيه، ولا للمجتمع الّذي قرّر أن يضعه في خانة الخطأة المهمّشين، لم يسمح لكلّ هذا أن يمنعه من الوصول إلى المسيح. لقد أخذ المبادرة، وتسلّق تلك الشّجرة.
هي دعوة لنا اليوم أن نخرج عن صمتنا وخوفنا، أن نعمل شيئاً لنظهر لنفسنا أوّلاً وللرّب بنوع أخصّ، أن لا شيء يقدر أن يمنعنا عن الوصول إلى الخلاص: لا خطايا ماضينا، ولا ضعف قوانا، ولا خوفنا ولا يأسنا ولا مشاكلنا، ولا نظرة المجتمع إلينا، لا شيء يقدر أن يحول دون وصولنا إلى الخلاص.
رواية زكّا هي دعوة لنا لنبدأ من جديد، لنفتّش عن بداية جديدة، نرتفع من خلالها عن واقعنا اليائس كما ارتفع زكّا ذاك اليوم فوق كلّ ما يحيطه، ونرى المسيح ينظر إلينا، يشاهدنا رغم زحمة الجموع، يقرأ ما في قلبنا من رغبة وشوق للخلاص.
نسمع صوت المسيح يدعونا للعودة، للنزول، فدعوتنا ليست في البقاء في الأعلى هرباً من الواقع والمجتمع، بل واجبنا أن نعود إلى حيث كنّا، لنخبر الآخرين بما رأينا حين ارتفعنا للقاء الرّب في الصّلاة، في التأمّل، في الإختلاء. دعوتنا أن نعود إلى واقعنا اليوميّ لنطهّره، ننقيّه من الشوائب والأخطاء، نحوّله من واقع خطيئة إلى حالة نعمة، نحوّل وجودنا إلى مكان بركة يقول لنا الله أنّه سوف يحلّ فيه هذا المساء ضيفـًا، يقاسمنا خبزنا اليوميّ، يشاركنا فرحنا، فرح الخلاص الّذي هو وحده يقدر أن يعطينا إيّاه.
الأب بيار نجم ر.م.م.