رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي الخامس للفقراء ٢٠٢١ «متفرقات
"الفقراء هم سرُّ المسيح، هم يمثّلون شخصه ويشيرون إليه" هذا ما كتبه قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة اليوم العالمي الخامس للفقراء ٢٠٢١
بمناسبة اليوم العالمي الخامس للفقراء الذي سيُحتفل به في الرابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر ٢٠٢١ وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة تحت عنوان "أَمَّا الفُقَراء فهُم عِندَكم دائمًا أَبدًا" كتب فيها "أَمَّا الفُقَراء فهُم عِندَكم دائمًا أَبدًا". قال
يسوع هذه الكلمات عندما كان على الغداء، في بيت عنيا، في بيت سمعان الذي يُدعى "الأبرص"، قبل أيّام قليلة من عيد الفصح. كما يروي الإنجيليّ، دخلت امرأة معها قارورة طِيبٍ ثمين، فسكبته على رأس يسوع. فأثار ذلك التصرّف دهشة كبيرة وأدّى إلى تفسيرَين مختلفَين. الأوّل هو استياء بعض الحاضرين، بما في ذلك التلاميذ، الذين وإذ أخذوا بعين الاعتبار قيمة الطّيب - حوالي ٣٠٠ دينار، أي ما يعادل الدّخل السّنوي للعامل – فكّروا أنّه من الأفضل أن يُباع ويُعطى ثمنه للفقراء. وبحسب إنجيل يوحنّا، فإنّ يهوذا هو الذي جعل من نفسه لسان حال هذا الموقف: "لِماذا لم يُبَع هٰذا الطِّيبُ بِثَلاثِمائَةِ دينار، فتُعطى لِلفُقَراء؟". وأضاف الإنجيليّ: "ولَم يَقُل هذا لاهتِمامِه بِالفُقَراء، بل لأَنَّه كانَ سارِقًا وكانَ صندوقُ الدَّراهِمِ عِندَه، فيَختَلِسُ ما يُلْقى فيه". ليس من قبيل الصدفة أن يأتي هذا النّقد القاسي من فم الخائن: إنّه الدليل على أنّ الذين لا يعترفون بالفقراء يخونون تعاليم يسوع ولا يمكنهم أن يكونوا تلاميذه. في هذا الصّدد، لنتذكّر كلمات أوريجانوس القويّة: "بدا يهوذا مهتمًّا بالفقراء. وإذا كان لا يزال هناك الآن شخص لديه صندوق الكنيسة ويتحدّث لصالح الفقراء مثل يهوذا، ولكن بعد ذلك يأخذ ما يوضع في داخله، فليحصل إذًا على نصيبه مع يهوذا".
أما التفسير الثاني فيعطيه يسوع نفسه، ويسمح لنا بأن نفهم المعنى العميق لتصرّف المرأة، ويقول: "دَعوها، لِماذا تُزعِجونَها؟ فقَد عَمِلَت لي عَمَلاً صالِحًا". إنَّ يسوع يعرف أنّ موته قريب، ويرى في تلك البادرة استباقًا لدهن جسده الميت بالطّيب، قبل وضعه في القبر. هذه الرؤية تذهب أبعد من كلّ توقّعات جلساء المائدة. يذكّرهم يسوع أنّه أوّل فقير، وأفقر الفقراء لأنّه يمثّلهم جميعًا. وأنّه باسم الفقراء، والأشخاص الوحيدين، والمهمّشين، والذين يتعرّضون للتّمييز العنصري، يقبل ابن الله مبادرة تلك المرأة. فهي بإحساسها الأنثويّ، تُظهر بأنّها الوحيدة التي تفهم حالة الرّبّ. وهذه المرأة المجهولة، ربما قد قُدِّر لها أن تمثّل عالم النساء بأكمله، عالم لن يكون له صوت على مرّ العصور وسيتعرض للعنف. وهي تفتتح حضورًا مهمًّا للنّساء اللّواتي يشاركن في ذروة حياة المسيح: صلبه، وموته، ودفنه، وظهوره قائمًا من بين الأموات. إنَّ النّساء، اللّواتي غالبًا ما يتعرّضْن للتّمييز العنصري ويُستَبعَدْنَ عن مواقع المسؤوليّة، هنَّ، في صفحات الأناجيل، رائدات في تاريخ الوحي. وبالتالي بليغة هي عبارة يسوع الختامية التي يربط بها هذه المرأة برّسالة البشارة السامية: "الحَقَّ أَقولُ لكم: حَيثُما تُعلَنِ البِشارَةُ في العالَمِ كُلِّه، يُحَدَّث أَيضًا بِما صَنَعت هذه، إِحْياءً لِذِكرِها".
إنَّ هذا "التعاطف" الشديد بين يسوع والمرأة، والطريقة التي يفسّر بها دهنها له بالطيب، والتي تتعارض مع النظرة المُشّكِّكة ليهوذا والآخرين، يفتحان طريقًا خصبًا للتأمُّل حول الرّابط الوثيق بين يسوع، والفقراء وإعلان الإنجيل. إنّ وجه الله الذي يكشفه لنا يسوع هو، في الواقع، وجه أب للفقراء وقريب من الفقراء. إن عمل يسوع بأسره يؤكّد أنّ الفقر ليس نتيجة القدر، وإنما هو علامة ملموسة لحضوره بيننا. نحن لا نجده متى شئنا وحيثما شئنا، ولكننا نتعرّف عليه في حياة الفقراء، ومعاناتهم وعوزهم، وفي الظروف غير الإنسانيّة أحيانًا التي يُجبرون على العيش فيها. لن أتعب أبدًا من تكرار أنّ الفقراء هم مبشّرون حقيقيّون، لأنّهم كانوا أوّل من تلقّوْا بشارة الإنجيل ودُعُوا إلى المشاركة في نعيم الرّبّ وملكوته. يبشّرنا الفقراء في جميع الظروف وفي كلّ مكان، لأنّهم يسمحون لنا بأن نكتشف مجدّدًا السّمات الأكثر أصالة في وجه الآب بطريقة متجدّدة على الدوام. لديهم الكثير لكي يعلِّموننا إياه؛ فبالإضافة إلى مشاركتهم في حسّ الإيمان، هم يعرفون بآلامهم المسيح المتألّم. وبالتالي من الضروري أن نسمح لهم جميعًا بأن يبشِّروننا. إنَّ البشارة الجديدة بالإنجيل هي دعوة لكي نعترف بالقوّة الخلاصية لحياة الفقراء، ونضعهم في محور مسيرة الكنيسة. نحن مدعوّون لكي نكتشف المسيح فيهم، ونعيرهم صوتنا للدّفاع عن قضاياهم، وإنما أيضًا لكي نكون أصدقاءهم، ونصغي إليهم، ونفهمهم، ونقبل الحكمة السّريّة التي يريد الله أن ينقلها إلينا من خلالهم. إنَّ التزامنا تجاه الفقراء لا يقوم فقط على أعمال أو برامج تنمية ومساعدة. إنَّ ما يحرّكه الرّوح القدس ليس الإسراف في النّشاطات، وإنما هو أولاً، تنبُّهٌ للآخر، واعتباره شيئًا واحدًا معنا. هذا التنبه المحبّ هو بداية الاهتمام الحقيقي بشخصه، وانطلاقًا من ذلك أرغب في السّعي الفعلي لخيره.
إن يسوع لا يقف فقط في صفّ الفقراء، بل هو يشاركهم المصير نفسه. إنّه تعليم قويٌّ أيضًا لتلاميذه في كلّ العصور. إنّ كلماته "أَمَّا الفُقَراء فهُم عِندَكم دائمًا أَبدًا" تشير أيضًا إلى هذا: إنَّ حضورهم بيننا هو دائم، لكن لا يجب أن يؤدّي إلى عادة تصبح لامبالاة، بل يجب أن يشركنا في مقاسمة حياة لا تقبل التفويض. إنَّ الفقراء ليسوا أناسًا "خارجيّن" عن الجماعة، لكنّهم إخوة وأخوات نتشارك معهم الألم لكي نخفف من ضيقهم والتهميش الذي يتعرّضون له، لكي تُعاد إليهم كرامتهم المفقودة ويُضمن لهم الإدماج الضروري في المجتمع. من ناحية أخرى، نعلم أنّ مبادرة الإحسان تفترض وجود مُحسِن ومستفيد، بينما المشاركة تولِّد الأخوّة. إنَّ الصَّدقة هي أمر عرضيّ أو عابر، أما المشاركة فهي دائمة. قد تكون الصَّدقة إرضاءً لمن يقوم بها، وإذلالًا لمن يتقبلها، بينما تعزز المشاركة التّضامن وتهيّئ الظروف الضروريّة لتحقيق العدالة. باختصار، عندما يريد المؤمنون رؤية يسوع شخصيًّا ولمسه بأيديهم فهم يعرفون إلى أين يتّجهون: الفقراء هم سرُّ المسيح، هم يمثّلون شخصه ويشيرون إليه. لدينا العديد من الأمثلة لقديسين وقديسات جعلوا المقاسمة مع الفقراء مشروعًا لحياتهم. أفكّر، على سبيل المثال في الأب داميان دي فويستر، قدّيس ورسول البُرص. الذي وبسخاءٍ كبير أجاب على الدعوة للذهاب إلى جزيرة مولوكاي، التي أصبحت معزلًا متاحًا فقط للبرص، ليحيا ويموت معهم. لقد شمَّر عن ساعديه وقام بكل ما بوسعه لكي يجعل حياة هؤلاء الفقراء المرضى والمهمّشين حياة تستحق أن تعاش، بالرغم من سوء حالتهم. جعل من نفسه طبيبًا وممرّضًا، ولم يكترث بالمخاطر التي قد يتعرّض لها، بل حمل نور الحب إلى "مستعمرة الموت" هذه، كما سمّيت الجزيرة. أصابه البرص أيضًا، كعلامة على المشاركة الكاملة مع الإخوة والأخوات الذين بذل حياته في سبيلهم. إنَّ شهادته آنيّة جدًّا في أيّامنا هذه، المطبوعة بجائحة فيروس كورونا: إنَّ نعمة الله تعمل بالتّأكيد في قلوب الكثيرين الذين بدون أن يظهروا للعلن يبذلون حياتهم في سبيل الأشخاص الاشدَّ فقرًا في مشاركة ملموسة.
نحن بحاجة إذن لأن نقبل دعوة الرّبّ، بقناعة كاملة: "توبوا وآمِنوا بِالبِشارة". تقوم هذه التوبة في المقام الأول، على فتح قلوبنا للتعرّف على أشكال الفقر المختلفة وإظهار ملكوت الله من خلال أسلوب حياة منسجم مع الإيمان الذي نعلنه. غالبًا ما يُعتبر الفقراء أشخاصًا منفصلين، فئةً تتطلّب خدمة محبّة خاصة. إنَّ اتّباع يسوع يتضمّن، في هذا الصّدد، تغييرًا في الذهنيّة، أي قبول تحدّي المقاسمة والمشاركة. أن نُصبح تلاميذه، يقتضي خيار عدم اكتناز كنوزٍ على الأرض، تُوهِم بأمان، هو في الواقع هشّ وفانٍ. على العكس، إنَّ اتِّباع يسوع يتطلّب منا الاستعداد لكي نتحرّر من كلّ رباط يحول دون الوصول إلى السّعادة الحقيقيّة والنّعيم، فنعرف ما هو دائم ولا يمكن لأيّ شيء أو أيّ شخص أن يدمره. إنَّ تعليم يسوع في هذه الحالة أيضًا يسير في عكس التيار، لأنّه يَعِدُ بما يمكن لأعين الإيمان فقط أن تراه وتختبره بيقين مطلق: "وكُلُّ مَن تَرَكَ بُيوتًا أَو إِخوةً أَو أَخواتٍ أَو أَبًا أَو أُمًّا أَو بَنينَ أَو حُقولاً لأَجلِ ٱسْمي، يَنالُ مائةَ ضِعْفٍ ويَرِثُ الحَياةَ الأَبَدِيَّة". إن لم نختر أن نكون فقراء من حيث الثروات الزائلة، والسلطة في هذا العالم، والمجد الباطل، فلن نكون قادرين أبدًا على بذل حياتنا في سبيل الحب، وسنعيش حياة مجزّأة، مليئة بالنّوايا الحسنة ولكنّها غير فعّالة لتغيّر العالم. لذلك علينا أن ننفتح بشكل حاسم على نعمة المسيح، التي يمكنها أن تجعلنا شهودًا لمحبّته التي لا تعرف الحدود وتعيد المصداقيّة إلى حضورنا في العالم.
يدفعنا إنجيل المسيح لكي نولي اهتمامًا خاصًّا بالفقراء ويطلب منّا أن نتعرّف على الأشكال العديدة للاضطرابات الأخلاقيّة والاجتماعيّة التي تولّد على الدوام أشكالًا جديدة من الفَقْر. هناك مفهوم منتشر يقول إنّ الفقراء ليسوا المسؤولين عن حالتهم وحسب، بل هم أيضًا عبء لا يُحتمل على نظام اقتصاديّ يتمحور حول مصلحة بعض الفئات المميّزة. إنَّ السّوق التي تتجاهل المبادئ الأخلاقيّة أو تختار منها ما يرضيها فقط، تخلق ظروفًا غير إنسانيّة تؤثّر على أشخاص كانوا يعيشون في ظروف صعبة. وهكذا نشهد أيضًا على خلق أشراك جديدة على الدوام للعوز والإقصاء، يسببها فاعلون اقتصاديّون وماليّون عديمي الضمير، يفتقرون للحسّ الإنساني والمسؤوليّة الاجتماعيّة. كذلك، زاد على ذلك آفة أخرى، جعلت عدد الفقراء يتفاقم، وهي الجائحة التي لا تزال تقرع أبواب الملايين من الأشخاص، وإن لم تحمل معها المعاناة والموت، لكنها تبقى نذير فقر متزايد. لقد تفاقم عدد الفقراء بشكل كبير، ولسوء الحظ، سيزداد أكثر في الأشهر القادمة. تعاني بعض البلدان من عواقب وخيمة بسبب الجائحة، ويجد الأشخاص الأكثر ضعفًا أنفسهم محرومين من الخيور الأساسيّة. إنَّ الطّوابير الطويلة أمام موائد الطّعام للفقراء هي العلامة الملموسة لهذا التدهور. إنَّ نظرة متنبِّهة تتطلب بأن يصار إلى إيجاد حلول أنسب من أجل مكافحة الفيروس على مستوى عالمي، دون البحث عن مصالح خاصّة. كذلك من الملِحِّ تقديم إجابات ملموسةة للذين يعانون من البطالة، التي تصيب بشكل مأساويّ العديد من أرباب العائلات، والنّساء والشباب. إنّ التضامن الاجتماعيّ وسخاء الكثيرين، المصحوبَين بمشاريع تعزيز بشري بعيدة النظر، قد ساهما وسيساهما بشكل كبير في هذه الضائقة.
ومع ذلك، يبقى السّؤال المُبهم مفتوحًا: كيف يمكننا أن نعطي إجابة ملموسة لملايين الفقراء الذين غالبًا ما لا يُقابَلون إلّا باللامبالاة أو حتى بالتأفف؟ ما هو مسار العدالة الذي من الضروري أن نتّبعه لكي نتمكن من التغلّب على الفروق الاجتماعيّة، ونستعيد الكرامة البشريّة التي تُداس في كثير من الأحيان؟ إنّ نمط حياة فردانيٍّ هو شريك في توليد الفقر، وغالبًا ما يحمّل الفقراء المسؤوليّة الكاملة لوضعهم المعيشيّ. لكن الفقر ليس نتيجة القدر، بل هو نتيجة الأنانيّة. لذلك، من الضّروري إطلاق عمليّات تنمية يتمّ فيها تقدير مهارات الجميع، لأنّ تكامُل المهارات وتنوّع الأدوار يؤدّي إلى مَوارِدَ عامة للمشاركة. هناك العديد من أنواع الفقر في "الأغنياء" الذي يمكن معالجته بغِنَى "الفقراء"، لو التقَوْا وتعارفوا فقط! لا أحد فقير لدرجة أنّه لا يستطيع أن يقدّم شيئًا من نفسه، في نظام يقوم على المبادلة. لا يمكن للفقراء أن يكونوا فقط أشخاصًا يأخذون، وإنما يجب أن يُوضعوا في ظرف يسمح لهم أن يعطوا، لأنّهم يعرفون جيّدًا كيف يردون على العطاء. وما أكثر أمثلة المشاركة التي نراها! غالبًا ما يعلّمنا الفقراء التّضامن والمشاركة. صحيح أنّهم أشخاص ينقصهم شيء ما، وغالبًا ينقصهم "الكثير"، حتى "الضروري"، ولكن لا ينقصهم كلّ شيء، لأنّهم يحتفظون بكرامة أبناء الله التي لا يمكن لشيء أو لأحد أن ينتزعها منهم.
لذلك يُفرض علينا نهج مختلف مع الفقر. إنّه تحدّ يتعيّن على الحكومات والمؤسّسات العالميّة أن يتعاملوا معه بأنماط اجتماعية بعيدة النظر، قادرة على مواجهة أشكال الفقر الجديدة التي تملأ العالم والتي ستطبع بشكل حاسم العقود القادمة. إذا تمّ تهميش الفقراء، كما لو كانوا المسؤولين عن وضعهم، فإنّ مفهوم الديمقراطيّة نفسه سيصبح في أزمة، وستصبح كلّ سياسة اجتماعيّة مهددة بالفشل. علينا أن نعترف، بتواضعٍ كبير، بأنّنا غالبًا ما نكون غير أكِفَّاء أمام الفقراء. نتكلّم عنهم بصورة مجردة، ونتوقّف فقط عند الإحصائيات، ونعتقد بأننا سنثير الشفقة بواسطة بعض الأفلام الوثائقيّة. ولكن يجب على الفقر أن يؤدّي إلى تخطيط خلّاق، يسمح بتنمية الحريّة الفعّالة في أن يحقق كل شخص حياته الخاصة بواسطة قدراته الخاصة. علينا أن نبتعد عن وَهمِ الاعتقاد بأنّ المال هو الذي يوجد الحريّة ويزيدها. إنَّ خدمة الفقراء بصورة فعّالة تولِّد العمل، وتسمح بإيجاد الأشكال الأنسب من أجل إحياء وتعزيز هذا القِسم من البشريّة، الذي غالبًا ما يكون مجهول الهويّة ولا صوت له، ولكنّ قد طُبع فيه وجه المخلّص الذي يطلب المساعدة.
"أَمَّا الفُقَراء فهُم عِندَكم دائمًا أَبدًا". إنّها دعوة لكي لا نغفل أبدًا عن الفرصة التي تُقدَّم لنا لكي نصنع الخير. يمكننا أن نرى في الخلفيّة، الوصيّة الواردة في الكتاب المقدس: "إِذا كانَ عِندَكَ فَقيرٌ مِن إِخوَتِكَ، فلا تُقَسِّ قَلبَكَ ولا تَقبِض يَدَكَ عن أَخيكَ الفَقير، بلِ افتَحْ لَه يَدَكَ وأَقرِضْه مِقْدارَ ما يَحْتاجُ إِلَيه. بل أَعطِهِ، لا كَرْهًا إِذا أَعطَيتَه، وبِذٰلك يُبارِكُكَ الرَّبُّ إِلٰهُكَ في كُلِّ أَعْمالِكَ وفي كُلِّ مَشارِيعِك. إِنَّ الأَرضَ لا تَخْلو مِن فَقير". وعلى الموجة عينها يضع القديس بولس الرسول نفسه عندما يحثّ المسيحيّين في جماعاته على مساعدة فقراء الجماعة الأولى في أورشليم، وأن يقوموا بذلك "لا آسِفًا ولا مُكْرَهًا. لأَنَّ اللهَ يُحِبُّ مَن أَعْطى مُتَهَلِّلاً". لا يتعلّق الأمر بأن نريح ضميرنا من خلال القيام ببعض الصّدقات، وإنما بأن نعارض ثقافة اللامبالاة والظّلم التي يتمُّ من خلالها التعامل مع الفقراء. وفي هذا السّياق، من الجيّد أيضًا أن نتذكّر كلمات القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: " لا يجب على السخيّ أن يطلب أبدًا تقريرًا عن سلوك الشخص المحتاج، وإنما عليه أن يُحسِّن وضعه ويلبّي احتياجاته. إن الفقير لا يملك إلا ضمانة واحدة: فقره والوضع الذي يعيش فيه، وبالتالي لا يجب أن نطلب منه شيئًا آخر. وحتى لو كان الأكثر شرًّا بين جميع البشر، لكنّه يفتقر للقوت الضروري، علينا أن نُعتِقَه من الجوع. إنَّ الرجل الرحيم هو ميناء للمحتاجين: والميناء يستقبل جميع الذين تحطّمت سُفُنَهم، ويحرّرهم من الخطر، سواء كانوا أشرارًا أو صالحين. إنَّ الميناء يحمي داخل خليجه جميع المُعرَّضين للخطر بدون أن يميِّز بينهم. كذلك أنت، عندما ترى على الأرض ذلك الشخص الذي تحطّمت سفينته بالفقر، لا تحكم عليه، ولا تطلب تقريرًا عن سلوكه، بل حرّره من محنته". من المهم جدًّا أن يزداد الوعي لفهم احتياجات الفقراء، التي تتبدّل على الدوام تمامًا كظروف الحياة. في الواقع، لقد أصبح الناس اليوم في مناطق العالم الأكثر تقدّمًا على الصّعيد الاقتصادي، أقلّ استعدادًا لمواجهة الفقر ممّا كانوا عليه في الماضي. إنَّ حالة الرفاهيّة النسبيّة التي قد اعتدنا عليها تجعل من الصّعب قبول التضحيات والحرمان. نحن مستعدّون لعمل أيّ شيء شرط ألّا نُحرَم ممّا حصلنا عليه بسهولة. وهكذا ننزلق في أشكال الحقد، وفترات العصبيّة المتقطِّعة، والمطالبات التي تؤدّي إلى الخوف، والقلق والعنف أحيانًا. هذا ليس المعيار الذي يجب أن نبني عليه المستقبل. ومع ذلك، فهذه هي أيضًا أشكال فقر لا يمكننا تجاهلها. يجب أن نكون منفتحين على قراءة علامات الأزمنة، التي تعبِّر عن أساليب جديدة نحمل بها البشارة في العالم المعاصر. لا يجب على المساعدة الفوريّة لتلبية احتياجات الفقراء أن تمنعنا من أن نكون بعيدي النظر، لكي نحقق علامات جديدة للمحبّة المسيحيّة، كجواب على أشكال الفقر الجديدة التي تختبرها بشريّة اليوم.
أتمنى أن يتجذّر اليوم العالمي الخامس للفقراء، الذي بلغ نسخته الخامسة، أكثر فأكثر في كنائسنا المحليّة، وينفتح على حركة بشارة تلتقي أولًا بالفقراء، هناك حيثُ يكونون. لا يمكننا أن ننتظر إلى أن يقرعوا بابنا، وإنما من الملحّ أن نصل إليهم في بيوتهم، وفي المستشفيات ودور الرّعاية، وفي الشوارع وفي الزّوايا المظلمة حيث يختبئون أحيانًا، وفي مراكز اللجوء والاستقبال... من المهم أن نفهم كيف يشعرون، وماذا يختبرون وما هي الرغبات التي يحملونها في قلوبهم. لنتبنى كلمات الأب بريمو مازولاري الصّادقة: "أودّ أن أطلب منكم ألّا تسألوني إن كان هناك فقراء، ومن هُم وكَم عددهم، لأنّني أخشى أن تشكِّل هذه الأسئلة إلهاء أو حجّة للتملُّص من إرشاد دقيق للضمير والقلب. أنا لم أعُدَّ الفقراء أبدًا، لأنّه لا يمكن عدَّهم: الفقراء يُعانَقون، ولا يُسأل عن عددهم". الفقراء هم بيننا. سنعيش بحسب الإنجيل حقًا إن استطعنا أن نقول بحقّ: نحن أيضًا فقراء، لأنّنا بهذه الطريقة فقط سنتمكّن من التعرّف عليهم وجعلهم جزءًا من حياتنا وأداة للخلاص.
إذاعة الفاتيكان.