رحمة الله اللامتناهية «متفرقات
أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامة مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس واستهل تعليمه الأسبوعي بالقول نودّ اليوم أن نتأمّل حول مثل الآب الرحيم الذي يحدثنا عن أب وابنيه ويُعرِّفنا على رحمة الله اللامتناهية (لو 15/ 11-32).
ننطلق من النهاية، أي من فرح قلب الآب: "لنأكُلَ ونَتَنَعَّم، لأنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد." (الآيات 23- 24). بهذه الكلمات أوقف الأب الابن الأصغر عندما كان يعترف بذنبه: "لَستُ أَهلاً بَعدَ ذلك لأن أُدعى لَكَ ابناً..." (الآية 19). إن هذه العبارة لا تُحتمل بالنسبة لقلب الأب الذي أسرع ليعيد للابن علامات كرامته: الثوب الجميل، الخاتم والحذاء.
إن يسوع لا يصف الأب مُهانًا أو مُستاء، بل على العكس، لأن الأمر الوحيد الذي يهمّ الأب هو أن يكون هذا الابن أمامه سليمًا ومعافى.
إن أسلوب الوصف لاستقبال الابن الذي يعود لمؤثّر جدًّا: "وكانَ لم يَزَل بَعيداً إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحشاؤُه وأَسرَعَ فأَلقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً" (الآية 20). إن رحمة الأب هي فيّاضة وغير مشروطة، وتظهر حتى قبل أن يتكلّم الابن.
بالطبع يعرف الابن أنه أخطأ ويعترف بذلك: "... اجعَلني كأَحَدِ أُجَرائِكَ" (الآية 19). لكنَّ هذه الكلمات تتبدّد أمام مغفرة الأب. وعناق أبيه وقبلته يُفهمانه أنه لا يزال يعتبره ابنه بالرغم من كل شيء. إن تعليم يسوع هذا مهمٌّ جدًّا: إن حالتنا كأبناء لله هي ثمرة محبّة قلب الآب؛ لا تتعلّق باستحقاقاتنا أو بأعمالنا وبالتالي لا يمكن لأحد أن ينتزعها منا.
إن كلمة يسوع هذه تشجّعنا لكي لا نيأس أبدًا. أُفكّر بالأمّهات والآباء الذين يقلقون لدى رؤيتهم لأبنائهم يبتعدون ويدخلون في دروب خطيرة. أفكّر بكهنة الرعايا ومعلّمي التعليم المسيحي الذين يتساءلون أحيانًا إن كان عملهم بلا فائدة.
ولكن أفكِّر أيضًا بالذين في السجن والذين يبدو لهم أن حياتهم قد انتهت؛ وبالذين قاموا بخيارات خاطئة وليس باستطاعتهم أن ينظروا إلى المستقبل؛ وبجميع الذين يجوعون للرحمة والمغفرة ويعتقدون بأنهم لا يستحقونهما... مهما كانت الحالة التي أعيشها، لا ينبغي علي أن أنسى أنني أبقى على الدوام ابنًا لله، ابن أب يحبّني وينتظر عودتي.
نجد في المثل ابنًا آخر، الأكبر، وهو أيضًا بحاجة ليكتشف رحمة الأب. لقد بقي دائمًا في البيت ولكنه مختلف تمامًا عن الأب! كلماته تفتقد للحنان: "ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال، وما عَصَيتُ لَكَ أَمراً قَطّ... ولمَّا قَدِمَ ابنُكَ هذا..." (الآيات 29- 30). هو لا يقول أبدًا "أب" أو "أخ". يفتخر بأنّه لازم البيت بالقرب من الأب وبأنه خدمه، ولكنّه لم يعش أبدًا هذا القرب بفرح. والآن يتّهم الأب بأنّه لم يعطه جديًا واحدًا ليتنعّم به. أب مسكين! أبن رحل والآخر لم يكن بقربه!
تابع الحبر الأعظم يقول إن الابن الأكبر يحتاج أيضًا للرحمة.
هذا الابن يمثّلنا عندما نسأل أنفسنا إن كان يستحق العناء أن نتعب كثيرًا إن كنا في النهاية لا ننال شيئًا بالمقابل. يذكّرنا يسوع أننا نبقى في بيت الآب لا للحصول على مقابل وإنما لأننا نملك كرامة الأبناء الذين يتشاركون في المسؤوليّة. فالأمر لا يتعلّق بالـ "مُقايضة" مع الله وإنما بإتباع يسوع الذي بذل ذاته على الصليب بلا مقياس.
"يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ. ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح" (الآية 31). هكذا يقول الأب للابن الأكبر. إن منطقه هو منطق الرحمة! لقد كان الابن الأصغر يعتقد أنه يستحق قصاصًا بسبب خطاياه أما الابن الأكبر فكان يتوقّع مكافأة على خدماته.
لم يتكلم الأخوان مع بعضهما البعض، يعيشان قصتين مختلفتين ولكنهما يفكران بحسب منطق غريب عن يسوع: إذا فعلت الخير تُكافأ وإذا فعلت الشرّ تُحاسب؛ ولكن هذا ليس منطق يسوع. لكن كلمات الأب هدمت هذا المنطق: "وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لأنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد" (الآية 31). لقد استعاد الأب ابنه الضال والآن يمكنه أن يعيده أيضًا إلى أخيه! بدون الأصغر يفقد الأخ الأكبر دوره كأخ؛ والفرح الأكبر للأب يكمن في رؤيته لأبنيه يعترفان بأنهما إخوة.
يمكن للإبنين أن يقررا أن يتّحدا بفرح الأب أو أن يرفضا. ينبغي عليهما أن يُسائلا نفسيهما عن رغباتهما وعن رؤيتهما للحياة. وتأتي نهاية المثل مفتوحة: لا نعرف ماذا قرّر الابن الأكبر أن يفعل. وهذا الأمر هو حافز لنا. يعلّمنا هذا الإنجيل أننا جميعنا بحاجة للدخول إلى بيت الآب والمشاركة بفرحه وبعيد الرحمة والأخوّة. لنفتح قلوبنا لنكون رحماء كالآب!
إذاعة الفاتيكان.