«جئتُ لأُلقي على الأرض ناراً، وما أشد رغبتي أن تكون قد اشتعلت» (لو 12: 49) «متفرقات
أليست تلك هي نعمة العنصرة التي تنتظرها الكنيسة والعالم اليوم؟
دعونا نتأمّل في هذا الحدث الفريد: الرّسُل مُجتمعين في العلّيّة، توحّدهم المُثابرة في الصّلاة بقلبٍ واحد، حول مريم (أع 1: 11-14)، والنساء الأُخريات (نعم! المرأة أيضًا هي في الواقع جزء من هذه الكنيسة الأولى وهذا الحدَث المؤسّس!) ينتظرون جميعًا تلك القوّة من العُلى التي ستمكّنهم من أن يكونوا «شهوداً بلا حدود» للقيامة، حاملين بشارة انتصار يسوع على الموت والشرّ.
كيف يُمكننا الذهاب في هذا العالم المليء بروح الانهزاميّة والكفر لنُعلن فيه أنّ الحياة هي أقوى من الموت وأنّ الحمَل أقوى من الذئب، إن لم نكُن مُسلَّحين برجاءٍ وقوّة تُمكّننا من السَّير ضدّ التيّار في عالمٍ يُقتَلُ فيه الرّوح في سبيل الاستيلاء على السّلطة والتملُّك؟
دعونا لا نحاول أن نجعل من الرّوح القدُس درسًا في اللّاهوت، إذ مَن لديه القدرة على استيعاب هذه القوّة، هذا «الرَّجاء الحامل روح النضال» الذي استولى على الرسُل... والذي غيَّر هؤلاء الرِّجال الذين يشلُّهم الخوف والجهل إلى شهودٍ جريئين ومُستنيرين...، رجالاً استطاعوا أن يُغيّروا القلوب القاسية ليجعلوا مِنها قلوبًا مليئةً بالحبّ، واللغات المُنقسمة إلى لغة موحّدة ونقص التنفُس إلى انطلاقة الرّوح الذي لا يُمكن لأحد أن يقاومهُ .
الرّوح القدُس في يوم العنصرة، هو الذي اختار بنفسه الرّموز الثلاثة التي أفهم بواسطتها أسلوبه في العمل والطريقة التي يُظهر فيها قوّته وحضوره: الريح، النّار، والألسنة.
- الريح
يعاني العالم من نقص التنفُس. ففي المكان الذي يتمّ فيه إسكات روح الله، نختنق؛ وفي المكان الذي نُخطئ فيه إلى الرّوح القدس، نموت.
كما نفخ الله في قلب آدم نسمة من حياته في بدء الخليقة (تك 2: 7)، ليُعِد خلقنا في هذا اليوم وليجدّد وجه الأرض. ليُعلّمنا عيد العنصرة أن نوجّه حياتنا باتّجاه نفس الله؛ ولتقُد القوّة المحتجبة للرّوح، - الذي لا نعرف من أين يأتي ولا إلى أين يذهب (يو 3: 8)- سفينة حياتنا وتساعدنا لاجتياز رحلتنا. لأنّه حتى ولو أنّ الريح مُعاكسة لاتّجاهنا، فالبحّار المتمرّس يعرف كيف ينشر أشرعته ويتقدّم ضدّ التيار.
لتُعطي العنصرة لعالمنا والكنيسة وأولئك الذين يُديرون دفّة الأمور، القدرة على تمييز نفَس الله الذي يخلقنا كلّ يوم، ويلهمنا ويُرشدنا.
- النّار
لقد سبق فقال يسوع: «جئتُ لأُلقي على الأرض نارًا، وما أشدّ رغبتي أن تكون قد اشتعلت» (لو 12: 49). إنّها نار الرّوح الذي يُنير ليالينا المُظلمة، يبعث الدفء في برودتنا ويُنقـِّي دنَسنا. إنّها ليست نار الأسلحة، إنّما نار الحُبّ. يقول المهاتما غاندي: مهما كان قلب الإنسان قاسيًا، فإنّه يذوب في نار الحُبّ.
نرى مريم، مدفوعةً بالرّوح، تذهب مُسرعة إلى الجبال لتشفي أليصابات من عارها وتُلهم يوحنّا المعمدان منذ أن كان في بطن أمّه (لو 1: 41) لكي يذهب «وينير المُقيمين في الظلمة وظلال الموت» (لو 1: 79).
ونرى تلميذيّ عمّاوس يرجعان مساء اليوم نفسه، وقد انفتحت أعينهما، بخطى خفيفة وقلوب مشتعلة، بالرّغم من تعب الطريق وأخطار الليل المُظلم (لو 24: 31-33) ليُشعلا من جديد نار الرَّجاء في قلوب رفاقهم المُحبطين.
نرى بطرس ويوحنّا يُجيبان الذين كانوا في الهيكل وأيضاً أمام السنهدرين: «إنّنا لا نستطيع السّكوت عن ذكر ما رأينا وما سمعنا» (أع 4: 20). ذلك هو نضال نار الحُبّ ضدّ فقدان الرّجاء؛ ذلك هو الحُبّ الذي يشفي الإنسان المُقعَد ويُقيمه واقفـًا (أع 3).
- الألسنة
لقد ظهر على شكل ألسنة كأنّها من نار قد انقسمت فوقف لسانٌ على كلّ من الأشخاص الحاضرين في صباح يوم العنصرة، رجالاً ونساءً. فانطلق لسان كلٍّ من هؤلاء الرِّجال العاديِّين، صياديّ السَّمك، وأخذوا «يُحدّثون بعجائب الله» بكلّ حماسة وفنّ في الكلام حتى أنّ الشّعوب التي يذكرها سِفر أعمال الرّسل دُهشوا من كلامهم (أع 2: 1-12).
لقد جاء عيد العنصرة ليُشفي الانعزال وانعدام التفاهم بين الإنسان وأخيه، بين أمّةٍ وأُمّة. في بابل:
لقد قرّر الإنسان أن يستغني عن الله وأن يصل إلى السّماء بوسائله الخاصّة ولكي يمجّد اسمه (تك 11: 4). لكنّه لم ينجح في ذلك؛ فقد توقـَّـف مشروعه في منتصف الطريق. هل يُمكن للإنسان الذي عزل نفسه عن الله، أن يتفاهم مع أخيه الإنسان.
لم يتسبَّب الله بالتأكيد باختلاط اللّغات وانقسام سكّان الأرض. إنّ استساغة طعم الهيمنة والبحث عن المجد الشخصيّ هو ما جعل الإنسان لا يستطيع التفاهم مع أخيه وكان السّبب في اختلاط اللغات. يأتي عيد العنصرة ليشفي هذا الجرح وليساعدنا الرّوح القدُس على الكلام بنفس اللّغة، لغة واحدة، مفهومة من الجميع، لغة الحُبّ. «لأنّ الحُبّ وحده هو الذي يخلّصنا» (البابا فرنسيس).
يأتي عيد العنصرة كالنفَس الذي يُلهم ويُنعش، كالنّار التي تُنير وتُعطي الدفء، ألسنة حُبّ تتجاوز كلّ الحواجز والحدود. هذه هي رسالة الرّوح القدُس، لا كذكرى لِما سبق وحدث في فجر تاريخ الكنيسة، لكن كفجرٍ لا ينتهي يُساعدنا على عيش هذا «الرّجاء الحامل روح النضال» (البابا فرنسيس) الذي يريد خلق عالمٍ جديد، يكون فيه الله «محبوبًا ومخدومًا» من قِبل الجميع.
الأب هانس بوتمان اليسوعيّ