المحبة «متفرقات
المحبّة ليست صفة، بل هي كيان: الله محبّة. ومَن يستطيع أن يحيط إحاطةً كاملة بسرّ الله؟
حين نقرأ الكتاب المقدَّس نجد أنّ شرح موضوع المحبّة يسلك مسارًا تدريجيًّا، ويمرّ بمراحل. أحبّ أن أتوقّف هنا عند خمسةٍ منها. محبّة الله ومحبّة الذات ومحبّة القريب ومحبّة العدو والمحبّة الشاملة.
محبّة الله، هي نقطة الإنطلاق. كلّ محبّةٍ لا تنطلق أوّلاً من الله تكون أرضيّة دنيويّة، تلوّثها الرّغبات الشخصيّة والميول المنحرفة. الله وحده يضمن نقاء المحبّة، والرّوح القدس يصحّح محبّـتنا كلّما طرأ فيها عطب أو اعوجاج، وفي هذا طمأنينة لنا.
فلنحبّ كما نشاء، ولنقدّم محبّـتنا هذه لله كي يفعل بها ما يراه مناسبًا. محبّة الله تعني ببساطة أن أجلس يوميًّا معه في هدوءٍ وسكينة وأقول له بكلّ مشاعري: أحبّك. يمكنني أن أضيف إلى هذه الكلمة ما أشاء، ولكنّها أساس حوار العاشقين، أنا والله.
محبّة الذات
من الغريب أن نتكلّم على محبّة الذات في حين تلحّ تعاليم مسيحيّة كثيرة على نكران الذات، وعدم الأنانيّة، إلخ. إنّ هذه التّعاليم تتكلّم على المرحلة التالية. ولكنّنا لا نستطيع أن نبدأها إن لم نستوفِ شروط المرحلة هذه. فالآية تقول: أحبب قريبك حبّك لنفسك. فكيف أحبّ قريبي إن كنتُ أكره نفسي، ولا أقبلها، وأشعر بأنّني إنسان تعس، قليل الحظّ، لا شيء فيّ يرضيني: لا شكلي ولا ذكائي ولا قدراتي ولا…؟ أحبب ذاتك. إفرح بها، أنظر إليها على أنّها تحفة الله. إقبل كلّ السلبيّ فيها، فأنت لا تعرف سرّ الله فيه. إقبل ذاتك كما هي تستطيع حينها أن تنمو.
محبّة القريب
إنّها الموضوع الشّائع. وهي نقطة انطلاق المحبّة المسيحيّة نحو الخارج. فمحبّة الله ومحبّة الذات تظلاّن على المستوى الشخصيّ الداخليّ، في حين تنقلنا محبّة القريب إلى الخارج، وتضعنا في مسارٍ تقدّميّ. ما معنى هذا؟ هذا يعني أنّ حياتي الروحيّة بدأت توسّع دائرة محبّتها، وعليها ألاّ توقِفَ التوسّع. أبي وأمّي، إخوتي وأخواتي، أقربائي وقريباتي، أصدقائي وصديقاتي، الأشخاص المحيطين بي والّذين لا أستلطفهم بالضرورة، الغرباء الّذين لا علاقة وثيقة لي بهم… بمحبّة القريب التوسّعيّة أستطيع أن أصلّي لكلّ إنسانٍ منكوبٍ ومتألّم في أيّ بقعةٍ من العالم، وأن أتبرّع لإعانته مع أنّني لا أعرفه.
محبّة العدو
إنّها القفزة التي أعلنها يسوع: "إن أحببتم الذين يحبّونكم فأيّ فضلٍ لكم" (متى 5 / 46). يمكننا القول إنّ محبّة الأعداء هي سمة خاصّة بالمحبّة المسيحيّة. إنّها السّمة التي تميّز المسيحيّ من مؤمني الديانات الأخرى. لا شكّ في أنّ سائر الدّيانات توصي بمحبّة الأعداء، ولكن ما من واحدةٍ منها تصل بمحبّة الأعداء حتّى بذل الذات في سبيل خلاصهم. محبّة الأعداء في مستوياتها الدّنيا تجعلني أسامح وأغفر ولا أفتّش عن الانتقام. وفي مستوياتها العليا تجعلني أبذل نفسي في سبيل أعدائي، تمامًا كما بذل يسوع نفسه على الصّليب في سبيل خلاص صالبيه.
المحبّة الشّاملة
ما الذي بقي؟ لقد بقيت الخليقة. فالمحبّة الشّاملة لا تُبعِد الخليقة عن نطاقها. الجماد والنبات والحيوان. رُبّا قائلٍ يقول: ولكنّنا نُحبّ الطبيعة، ونحبّ التمتّع بها والجلوس في أحضانها! أجل، هذه محبّة شاملة، وبحاجة إلى تنقية، فلا أحبّ الطبيعة لأجل متعتي، بل لأجلها. ففي الطبيعة ما لا يروق لي: الذباب والحشرات والأفاعي والعقارب والنباتات البرّيّة التي أرى أنّها عديمة النفع. لمَن عليها أن تكون نافعة؟ لي طبعًا. هنا تظهر الأنانيّة.
كلّ ما أراه في الطّبيعة خلقه الله. والله لا يخلق ما لا يحبّه، الله لا يخلق ما ليس بحسَن. فإن لم أرَ الحَسَن فيه عليّ أن أوسّع دائرة محبّـتي. عليّ أن أعود إلى الله الذي أحبّه وأقول له: لقد خلقتَ هذه يارب لأنّك تحبّها، وطالما أنّك تحبّها، سوف أحبّها أنا أيضًا… يا ربّ أحبّكَ، وأحبّ كلّ ما تحبّه أنت.
الأب سامي حلّاق اليسوعيّ