الفضائل الأربع التي ارتكز عليها وجدان القديس شربل «متفرقات
"حينئذٍ يتلألأ الأبرار كالشّمس في ملكوت أبيهم" (متى 13: 43)
1. يتلألأ القدّيس شربل كالشّمس في ملكوت الآب في السّماء، كما تلألأ في كنيسة الأرض، محافظًا على نفسه في حياة الدّنيا زرعًا جيّدًا زرعه المسيح – ابنُ الإنسان في حقل بقاع كفرا والرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة، وبخاصّة في أرض عنايا. فأصبح حنطة المسيح في العالم كلّه، يوزّع نِعَم الله، حبّات قمح دائمة المواسم في جميع بلدان الأرض.
إليه نرفع عقولنا وقلوبنا، من قرب ضريحه، وتجاه إشعاع وجهه، ملتمسين منه نعمة المحافظة، مع شعبنا المسيحيّ، على هويّتنا ورسالتنا كزرع جيّد في حقل لبنان وبلدان الشّرق الأوسط ودنيا الانتشار.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا، ككلّ سنة، بعيد القدّيس شربل قرب ضريحه، وهذه السّنة ضمن احتفالات اليوبيل الخمسين على إعلانه طوباويًّا سنة 1965 بصوت الطوباويّ البابا بولس السّادس ؛ وأن نقيم الذبيحة الإلهيّة مع قدس الرئيس العام الأباتي طنّوس نعمه والآباء المدبّرين العامّين، والآباء الجدد الخمسة الذين رُسموا كهنة منذ أسبوعين.
فإنّا إذ نهنّئكم أيّها الأحبّاء بنعمة الكهنوت، نرجو لكم، بشفاعة القدّيس شربل إبن رهبانيّتكم، أن تعيشوا بالأمانة الكاملة، على مثاله، لنذوركم الرهبانيّة ولوعود الكهنوت المقدّس. كما نهنّئ أهلكم الذين وفّروا لكم الجوّ الرّوحيّ الملائم لسماع دعوة المسيح لاتّباعه على طريق المحبّة الكاملة في الحالة الرهبانيّة والكهنوت. ونهنّئ الرهبانيّة اللّبنانية الجليلة، راجين لها دوام النموّ والازدهار، روحيًّا ورهبانيًّا وراعويًّا، بشفاعة أبنائها القدّيسين، والتهنئة لكنيستنا المارونيّة، وأنتم أعضاء جدد في جسمها الكهنوتيّ.
3. عندما قصد القدّيس شربل دير مار مارون عنايا ليلًا، من دون إعلام أحد في دير سيّدة ميفوق حيث دخل أوّلًا، ولبس ثوب الإبتداء، وبدّل إسمه من يوسف إلى شربل، كتبوا في سجل المبتدئين أنّه "شلح الثوب". فساء الخبر أمّه وشقيقه حنّا، فتوجّها إلى دير عنايا لإعادته إلى البيت.
ولمّا وجدته أمّه متمسِّكًا بدعوته، قالت له: "إمّا أنّك تثبت في الرهبانيّة، وتطلع راهب مليح. وإمّا إرجع معي إلى البيت الآن". فأجابها: "وهو عند قولك". وكان شربل عند قوله. فقبل التحدّي الكبير بأن يكون للمسيح وللكنيسة بكلّيته، راهبًا بكلّ معنى الكلمة.
4. هذا كان قراره اتّخذه يوم ترك ليلًا وبالخفية بقاع كفرا والبيت الوالديّ إلى دير سيّدة ميفوق. لكنّه قرار مبني أصلًا على حياة مسيحيّة عاشها في البيت الوالديّ، بيت أنطون زعرور مخلوف وبريجيتا الياس الشّدياق، المعروف ببيت إيمان وصلاة، وفي قريته حتّى عمر ثلاث وعشرين سنة. وكان معروفًا في الضّيعة "بالقدّيس"، والمغارة التي كان يلجأ إليها للصّلاة، سُمِّيت أيضًا "مغارة القدّيس". كان رجل صمت وصلاة في كنيسة الرعيّة وخارجها، ويبتعد عن معاشرة النّاس والإختلاط بهم، ويحبّ الانزواء والعزلة، ليعيش ملء الاتّحاد بالله في التأمّل والصّلاة.
وكان لقرار شربل الذي اتّخذه، وللتحدّي الذي قبله، خلفيّةٌ ذات أصول هي وجود خالـَـيْه الأبوين دانيال وأغسطينوس راهبَين مثاليَّين في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة نفسها. الأوّل في دير سيّدة ميفوق، والثّاني في دير مار أنطونيوس قزحيّا.
5. هو الله يضع في طريقنا كلّ ما يسهّل لنا سماع صوته الذي يدعونا في الحياة إلى دعوة ما: إلى الحياة المكرَّسة، أو إلى الكهنوت، أو إلى الزواج. وكلّها دعوات لعيش سّر الحبّ النّابع من قلب الله. في الزواج، يعيش الزوجان الحبّ التزامًا متبادلًا في إسعاد الواحد الآخر، وفي التعاون والتّكامل؛ ويعيشانه مشاركة لله – الخالق في نقل الحياة البشريّة وتربيتها وإعالتها تحت عنايته وتأمين مستقبلها.
في الكهنوت يعيش الكاهن الحبّ متفانيًا باسم المسيح وشخصه في إعلان إنجيله وتعليم الكنيسة، لإيقاظ الإيمان في النفوس وتنويره وتثقيفه؛ وفي توزيع نعمة الأسرار الشافية؛ وفي تكوين جماعة مسيحيّة موحّدة على أساس الحقيقة والمحبّة. في الحياة المكرّسة، أكانت في الأديار أم في العالم، يعيش المكرّسون والمكرّسات الحبّ أخوّةً شاملة لجميع النّاس، ملتزمين خدمة المحبّة، وشاهدين للمسيح في حياتهم وأعمالهم ومؤسّساتهم التي تتنوّع بتنوّع حاجات النّاس والمجتمع والكنيسة، من دون قيد أو شرط زمنيّ أو مكانيّ.
لسماع الدّعوة والالتزام بتلبيتها، ينعم الله علينا بعائلة مسيحيّة مؤمنة ومصلّية. وينعم علينا بكنيسة رعائيّة، نسمع فيها كلمة الله، وننال نعمة الأسرار، ونعيش وحدة الجماعة المؤمنة، وفرح العائلة الرعويّة. القدّيس شربل هو ابن هذا الإنعام الإلهيّ.
ونحن إذا نظرنا إلى مجرى حياتنا الشخصيّة وجدنا أنّ الله أنعم علينا بالكثير، لكي نسمع صوته، ونسير بموجب ما يدعونا إليه، ونكون أمناء لقرارنا الأوّل.
6. القدّيس شربل هو رجل التحدّي والقرار. ما جعله راهبًا مثاليًّا في الدّير، وكاهنًا- ذبيحة في المحبسة، متماهيًا مع المسيح حتى النّهاية. ذلك أنّه كان ذا وجدان رهبانيّ وكهنوتيّ حيّ للغاية. وهذا هو الأساس في حياة الشّخص والجماعة، كلّ جماعة عائليّة أو رهبانيّة، أو كنسيّة أو وطنيّة. والوجدان هو معرفة الذات، الفرديّة أو الجماعيّة، في جوهرها وغايتها ومعنى وجودها.
أدرك القدّيس شربل وجدانه المسيحيّ والرّهبانيّ والكهنوتيّ وعمل على تعميقه وعيشه مع ما فيه من تحدّيات. فبنى هذا الوجدان على فضائل أربع: الرّغبة والعمل والجهاد والنّزاهة.
7. كانت لدَيه رغبةٌ شديدة في عيش الإيمان ومحبّة الله. فراح يتسلّق سلّم الفضائل، ويناضل ضدّ التجارب ومغريات الدنيا. فكان مميّزًا، وفاعل فرقٍ في الحياة المسيحيّة والرّهبانيّة والكهنوتيّة.
وجسّد القديس شربل هذه الرّغبة الشّديدة بالأفعال المتواضعة، الخفيّة، الصّادقة والبنّاءة. يعمل ويصلّي في الحقل والدّير، يطيع ويلبّي كلّ طلب وأمر، يتجرّد من ذاته، ولا يريد شيئًا لنفسه، لا أكلًا ولا شربًا ولا لباسًا، ولا أيّ شيء آخر. بل يعطي من كلّ قلبه وعقله وقوّته. حسبُه أن يحبّ الله ويرضيَه في كلّ عمل صالح.
وجاهد بثبات ساعيًا إلى اكتساب الفضائل التي نقّت نفسه من كلّ الشّوائب. فتميّز بصلاة عميقة لفظيّة وتأمّليّة أصبحت لديه حالة حياة؛ بفقرٍ أغناه بالله؛ بتقشّفٍ دائم رفع قلبه إلى الغنى الإلهيّ؛ بقناعة وفرح حرّراه من شؤون الدّنيا؛ بطاعة من دون حدود؛ بتوبة فاعلة في أعماق نفسه؛ بسلام داخليّ عميق كان ينشره من حوله.
أمّا النزاهة فجعلته صافيًا كالماء، طيّبًا كالخبز، منعشًا كالهواء. ذلك أنّه افتقر من كلّ شيء واغتنى بالله.
8. هكذا تلألأ شربل المسيحيّ والرّاهب والكاهن في ملكوت السّماء على الأرض، الذي هو الكنيسة. وبإعلانه طوباويًّا ثمّ قدّيسًا على مذابح الكنيسة الجامعة، فإنّه يتلألأ كالشمس ممجّدًا في ملكوت الآب في السماء، وكالشّمس يشرق على أرضنا موزِّعًا نعم السّماء في كلّ مكان وعلى كلّ إنسان من أيّ دين أو عرق أو جنسيّة كان.
وبحسب ما هو مدوَّن في سجلّات دير مار مارون -عنايا، يوزّع النّعم في لبنان ومصر وسوريا والعراق والبرازيل والولايات المتّحدة الأميركيّة، وأوستراليا والأرجنتين وفرنسا وبلجيكا وجزيرة مالطا وأفريقيا والمكسيك والفيليبين. ترك العالم كلّه، وصار لكلّ العالم. عجيبٌ اللهُ في قدِّيسيه!
9. أيّها القديس شربل، يا ابنَ أرضنا اللبنانيّة والمشرقيّة،
أَرسِلْ نِعَمَ السّماء إلى المسؤولين السّياسيِّين عندنا في لبنان، لكي يكونوا مثلك أصحاب قرار جريء، شجاع ومتجرّد، فيُخرجوا البلاد من أزمتها السياسيّة بانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة لكي تعود للمؤسّسات الدستورية حياتها: للمجلس النيابي شرعيّة ممارسة صلاحياته التشريعيّة والرّقابيّة، وللحكومة سهولة ممارسة صلاحيّاتها الإجرائيّة؛ ويعملوا بروح المسؤوليّة الكاملة على مواجهة الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة الخانقة، وعلى معالجة الحالة الأمنيّة المترجرجة ومخاطرها المتعاظمة من جرّاء ما يجري من حولنا.
أَرسِلْ نِعَمَ السّماء إلى المسؤولين عن الحروب والأزمات وموجات العنف والإرهاب، الجارية في فلسطين والعراق ومصر وسوريا واليمن وليبيا وسواها، أكان هؤلاء المسؤولون داخليّين أم إقليميّين أم دوليّين، لكي يضعوا حدًّا لها، بإيجاد الحلول السياسية والديبلوماسية، من أجل إحلال سلام عادل وشامل ودائم، ويؤمِّنوا عودة النّازحين والمهجّرين إلى بيوتهم وأراضيهم وحفظ جميع حقوقهم وأمنهم وكرامتهم.
ومعك أيّها القديس شربل وسائر القدّيسين والطوباويّين، نرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
عظة الكردينال البطريرك مار بشاره بطرس الراعي عيد مار شربل - عنايا،
الأحد 19 تموز 2015