البريّة والإستقرار «متفرقات
ليست البرِّيَّة رمزاً للترحال فقط، بل للاستقرار أيضًا، وهذا ما نريد إظهاره الآن من خلال جولة في سيرة أنطونيوس؛ ممّا سيُؤدِّي بنا إلى الإقرار بأهمِّيَّة اكتساب فضائل نُسكيّة، وهي وجه الحياة النسكيّة المُوجَب، كما نذكر؛ فمن المعروف لدى آباء البرِّيَّة أنّهم أعادوا بالغ الأهمِّيَّة للاستقرار بدون تنقُّلات. إذن علينا أن نُدرك روحانيّته، ثمّ أن نُوضِّح ما يكتسبه الناسك من فضائل من خلاله. ثمّ نُبرز معاني الاستقرار المعاصرة.
روحانيُة القِلّاية وحصن الدّير
يعيش النسّاك في "القِلّاية" (باليونانيّة kellia) أو في داخل حصن أديرتهم، مُقتدين في ذلك بأنطونيوس نفسه الذي عاش عشرين عامًا من دون أن يخرج من منسكه ولا أن يراه أحد.
وكان يتمنّى لو استمرّ على هذا النمط من حياة "الاعتزال" (باليونانيّة Anachoresis بمعنى "ابتعد عن" أي اعتزل العالم) بدون زائرين، ليختلي بنفـسه في منسكه.
ومن بعده، كثُرت أقوال الآباء الشيوخ حول دور القِلّاية. ولقد قال الأبّا موسى لراهب قد أتى إليه: "اذهب وامكث في قلّايتك وستُعلِّمك قلّايتك كلّ شيء". والله نفسه يُعلِّم الناسك السّاكن في قلّايته، وفيها يُخاطب الناسك ربَّه، على حسب وصيّة يسوع نفسه: "إذا صلّيتَ، فادخل حُجرتك وأغلق عليك بابها وصلِّ إلى أبيك الذي في الخُفية وأبوك الذي يرى في الخُفية يُجازيك" (متى 6/6).
ترمز القلّاية إذاً إلى سرِّ ما يدور بين النفس وربِّها. فضلاً عن أنّ كثرة الحركة في خارج القِلّاية تنمُّ عن عدم استقرار داخليّ وعدم استبطان للحياة الروحيّة.
وإذا وسّعنا رمزيّة "القِلّاية" وجدنا "العموديِّين" في سورية يستقرُّون على عمود للأسباب عينها؛ وكذلك نجد بعض الرهبانيّات الغربيّة تنذر نذرًا رابعًا – بالإضافة إلى نذر الفقر والعفّة والطاعة – ألا وهو نذر "الاستقرار" في دير ينتمون إليه طوال حياتهم ولا يخرجون منه إلّا لأسباب تُحدِّدها الطاعة الرّهبانيّة، شأنهم شأن سائر الرّهبان الشرقيِّين.
وإذا رَوْحنّا رمزيّة "التوحُّد"، وجدنا باسيليوس يُصرِّح بأنّ التوحُّد ليس بمكان جُغرافيّ فحسب، بل يتجاوزه ويُصبح رمزًا لتغيير طريق الحياة الضروريّ في الحياة المسيحيّة بعامّة والحياة الرهبانيّة بخاصّة.
وكيف التوفيق بين الاستقرار هذا وضرورة الرّحيل؟
يُجيب عن هذا السؤال قول آبائيّ: سأل الأبّا سِراييون إحدى الرّاهبات السّاكنات في قِلّاية صغيرة جدًا: "لماذا تمكثين هنا؟" فأجابته للتوّ: "إنّي لا أمكث هنا، بل إنّي في سفر".
فإن كان المكان الجغرافيّ المادِّيُّ مُحدَّدًا وضيِّقـًا – قِلّاية ً كان أو ديرًا – إلّا أنّ الرّوح لا ينحصر فيه، بل يتّحد بالله وبملكوته الآتي، رمزًا للسفر. ولقد اختبرت الراهبة الكرمليّة تريزا الطفل يسوع (1873-1897) اختبارًا مُماثلًا، إذ كانت - من داخل ديرها المُحصَّن في مدينة لِيزْيُو بفرنسا – تحمل في قلبها وصلاتها الكنيسةَ كلّها، ولا سيّما المُرسَلين الذين يكرزون بالربِّ يسوع؛ حتّى إنّ الكنيسة الكاثوليكيّة اعتبرتها "شفيعة الإرساليّات"، وإن لم تخرج قطّ من ديرها. لا تعرف القِلّاية إذاً ولا الدير ولا الحصن حُدودًا، فإنّما الحدود هي العالم كلُّه باتِّساع محبّة الله له.
ومن هذا المُنطلق الذي يرسم لنا روحانيّة "القِلّاية" ورمزيّتها، بوسعنا أن نسبر أغـوار ما يدور في داخل حياة الناسك وهو في قِلّايته:
الاستقرار واكتساب الفضائل
يحيا الناسك في منسكه – قِلّاية كان أو ديرًا – حياة داخليّة تبني شخصيّته الرّوحيّة، ولا سيّما باكتسابه فضائل رهبانيّة مميَّزة، ذلك بأنّه لا يكفي مقاومة التجارب كما حلّلناها سابقـًا. ونُورد هنا أهمّ الفضائل كما يصفها التقليد الرّهبانيّ:
ضبط النفس
لقد تيقّظ النسّاك إلى ضرورة ضبط النفس، ولا سيّما "ضبط الحواسّ" (باليونانيّة Enkrateia)، وحراسة القلب (بحسب تعبير كاسِّيانُس)، وضبط الأفكار الشرِّيرة (كما أشار إليه أنطونيوس مرارًا) بالتيقُّظ إلى الذات ليعرفوا مدى تأثير الأفكار هذه فيهم.
ويُلخِّص أنطونيوس هذه الوصايا في خُطبته إلى النسّاك بقوله: "فلنكُن صاحين في سيرتنا، حتّى نحفظ أنفسنا بكلِّ حرص". ويضيف أثناسيوس مرجع أنطونيوس الكتابيّ: "صُن قلبك أكثر من كلِّ ما تحفظ فإنّ منه تنبثق الحياة. اِنْفِ عنك خداع الفم وخُبثُ الشفتين أبعده عنك. لتنظر عيناك إلى الأمام ولتكن أجفانك سديدة قُدّامك. تبصّرْ في سبيل قدميك فتثبت جميع طُرقك. لا تمِل يَمنة ولا يَسرة أبْعِدْ قدَمك عن الشرّ" (مثل 4/ 23-27).
عزيمة النفس (Thumos) القُوّة الدافعة (Epitumia)
يقول أنطونيوس في هذا الصدّد: "إنّ عزيمة النفس تقوى عندما تضعف ملذّات الجسد" (عدد7). وبإمكانها أن تُحارب الشّياطين.
وكانت رغبات مُقدّسة في الحياة النسكيّة تملأه، كما كانت قوّة داخليّة تحثُّه على القيام بكلِّ ما كان يعزم عليه من صلاة وعمل، وتقشُّفات ومُعاملات...
وتظهر الشّجاعة هذه ورِباطة الجأش في أثناء الصّعوبات والأزمات والضيقات، وكأنّ يسوع يقول حينذاك: "لا تخف"، "أنا معك".
الاعتدال والاتزان (Summetro)
لقد تطرّف بعض الرّهبان – من جميع الأزمنة والأمكنة – في ممارسة التقشُّفات، بـل كان بعضهم يتنافسون فيها حماسة، بل وغَيْرة. إلّا أنّ الاعتدال بمثابة القاعدة الذهبيّة في جميع ألوان التقشُّفات والزهد والنسك، وهذا ما عاشه بالفعل أنطونيوس. فوصَفه أثناسيوس بعد أن "انقضت عشرون سنة بدون أن يخرج أو أن يراه أحد بـاستمرار، وهو ينسك بمفرده"، على هذا المنوال: "خرج أنطونيوس وكأنه يخرج من الهيكل وهو يحمل الله ويتلقَّن سرّه. فكانت المرّة الأولى التي يظهر فيها خارج الحصن. فتعجبوا منه، لأنّهم رأوا جسده في حالته المُعتادة، أي أنّه لم يترهّل كشخصٍ لم يُمارس رياضة بدنيّة، ولم يضعف بسبب كثرة الأصوام وصراعه مع الشّياطين".
فهذا مثال أعلى للاعتدال والاتِّزان في التقشُّفات. وقد استمرّت حالته على هذا المنوال حتّى آخر أيّامه: "بقي في كلِّ شيء من غير أذّى. فنظرُه لم يضعف، وأسنانه لم تتساقط ولكنّها بقيت نخرة تحت اللثّة بسبب تقدُّمه في السنّ. كما أنّه بقي صحيح اليدين والقدمين. وكان أشدّ قوّة من جميع الذين استخدموا نظامًا مُعيّنـًا في طعامهم وألبسة متنوِّعة واستحمامًا كثيرًا".
فقد كان أنطونيوس يعيش توحيد شخصه، ما بين جسده وروحه، في شفافيّة تامّة لعمل الله فيه. وهكذا كان يظهر لزوّاره. ولقد اتّسم تعليمه سِمة الاتِّزان والاعتدال عينها، فقال: "أفنى بعضُهم أجسادهم بالنسك، ولكنّهم – لعدم تمييزهم – ظلّوا بعيدين عن الله".
وظلّ الرّوحانيّون من بعده ينادون بما نادى هو به. فها إنّ كاسِّيانُس يقول: "إنّ الصيامات المُفرطة تضرُّ مثل الشّراهة". وها إنّ الأبّا ييمن يقول للأبّا إسحق الكلام عينه: "لقد تعلّمنا ألّا نكون قتلة للجسد بل قتلة للشّهوات". وها هي الأمّا سَنْكِلِتيكا تقول: "كلُّ ما هو بدون اتِّزان (Ametron) هو من الشّيطان". وتشرح قولها على هذا المنوال: "هناك نسك يُحدِّده العدوُّ ويمارسه تلامذته.
وكيف التمييز بين النسك الذي مصدره الله، وهو ملكيّ، وبين النسك الذي مصدره الشّيطان، وهو مستحوذ؟ بكلِّ وضوح: إن كان مُتّزنًا مُعتدلاً (Summetron). (...) وبالفعل، فإنّ عدم الاتِّزان مصدر الانحراف دائمًا". وهي تضرب مَثل الذين يصومون أربعة أيّام أو خمسة، ثمّ يأكلون بِنَهم وإفراط. فالإفراط في الصّوم يُولـِّد الإفراط في الأكل. ولقد جمع العديد من الشيوخ بين الاعتدال هذا والتمييز، فينبغي التمييز في ممارسة التقشُّفات. فهذا التمييز هو "مَلَكة الفضائل" (صُفْرونيوس الأورشليميّ) وهو "مصدر وأصل ورأس كلِّ فضيلة" (نِيلُس).
وفي الغرب أيضًا، سعت الرّهبانيّات إلى هذا الاعتدال وهذا الاتِّزان، فنذكر – على سبيل المثال، لا الحصر – الرّهبانيّة البِنِدِكْتِيّة، نسبةً إلى القدِّيس بِنِدِكْتُس أي "مبارك" (حوالى 480 – حوالى 547)، وهو مؤسِّس الحياة الرهبانيّة الغربيّة؛ فيظهر الاعتدال والاتِّزان حتّى في برنامجها اليوميّ، في ما يُعرف بـ"الثلاث الثمانيّات" حيث ثماني ساعات للصّلاة، وثماني ساعات للعمل، وثماني ساعات للأكل والرّاحة والنوم.
المثابرة (Carteria)
بقدر ما الحياة النسكيّة هي صيرورة مُستديمة وجهاد دائم، كان أنطونيوس "يبدأ حياته النسكيّة من جديد كلّ يوم... ويجتهد وكأنّه يبدأ كلّ يوم". ومن مُنطلق خبرته هذه، فإنّه علّم النسّاك المُثابرة: "لا نقُل إنّنا عُتِقنا في الحياة النسكيّة، بل لِتَزدَدْ حماستنا يوماً بعد يوم، كأنّنا نبدأ كلّ يوم".
وحدّثهم مرّة أُخرى عن الموضوع عينه: "أوصاهم بألّا يتماهلوا في الأتعاب ولا يكلُّوا في النسك، بل أن يعيشوا وكأنّهم يموتون كلّ يوم". هكذا، فإنّهم اقتفوا أثره. وفي لحظاته الأخيرة، "فكَّروا في أنطونيوس، رجل الله الذي حفظ منذ حداثته حتّى هذه السنِّ المُتقدِّمة غَيرَة النسك غير مُنتقصة" (عدد 93). ومن بعد أنطونيوس، لم يكُفّ الأدب النسكيّ عن تذكير المُثابرة في الحياة الروحيّة؛ فلقد دعا غريغوريوس النيصيّ – ومن بعده العديد من الآباء – إلى الانطلاق" من بدايات إلى بدايات وحتّى البداية الأبديّة"، الأمر الذي يولـِّد "إعجابًا على إعجاب".
وتعود ضرورة المثابرة إلى أنّ شهوات الجسد يمكنها أن تستيقظ في أيِّ وقت؛ وإزاءها، تخمدها المثابرة في الجهاد. ولكنّنا، إذا نظرنا إلى الأمور نظرة إنجيليّة أعمق، وجدنا أنّ هذه الدّعوة دعوة يسوع نفسه، وقد وجهَّها إلى نيقوديمس نفسه عند كلامه على "الولادة الثانية"، الولادة من فوق، "الولادة المُتجدِّدة" حتّى لا يُفقد "الحبُّ الأوّل" (رؤ2/ 4) و"الحميّة"، وقد يحلُّ محلّهما "الفُتور" (رؤ 3/ 15 و19).
فتشترك المُثابرة في المنطق نفسه من التجدُّد المُستمرِّ المُستديم. ويعود ذلك إلى كون الإنسان كائنًا مُتزمِّنًا، فلا يكفي الاهتداء الأوّل، بل عليه أن يتزمّن ويحيا في محكِّ الزمن. ولقد وصفت تريزا الآبليّة اختبارها "التوبة الثانية"، حتى أصبحت هذه الحقيقة الروحيّة خطوة مهمّة في كلِّ مسيرة روحيّة. ذلك بأنّ البِذرة التي يبذرها الزارع تتضمّن كلّ شيء، إلّا أنّها تنمو في الزّمن، ومن خلال ظروف الحياة، في حُلوِها وفي مُرِّها.
عدم الاضطراب (Apatheia) والسكينة (Hesychia)
كثيرًا ما كان أنطونيوس يدعو النسّاك إلى مُقاومة غضبهم:
"فلنُجاهد كي لا يطغي علينا الغضب".
ويصف أثناسيوس أنطونيوس عندما ظهر لأوّل مرّة بعد أن قضى عشرين عامًا في العزلة: "كانت سجيّة نفسه طاهرة، ولم يتحكّم الأسى به. ولم يتشتّت عقله قطّ من أيّة لذّة. ولم يكن عابسًا ولا ضاحكاً. وحينما رأى الجمعَ، لم يضطرب؛ كما أنّه لم يفرح بمعانقة الكثيرين له. فكان عقله راجحًا وحالته طبيعيّة. كان هو نفسه دائمًا".
ويردف أثناسيوس فيصف خُلقه:
"كان ذا نفس هادئة، وحواسّ غير مضطربة، وجهٌ وضّاء بسبب فرح نفسه. حتّى إنّ جميع حركات جسده كانت تعكس حالته النفسيّة... هكذا عُرف أنطونيوس شخصًا هادئ النفس دائمًا لا يعرف الاضطراب. فلم يكن عابسًا أبدًا، بل فرِح الذهن".
وإنّ المقصود بـ"عدم الاضطراب" هو الوصول إلى ما يمكننا تسميته – بِلُغتنا المُعاصرة – "الحرِّيَّة الداخليّة" و"الشخصيّة المُتساوية"، حيث يتحكّم الإنسان في كلِّ ما يطرأ عليه من أحداث داخليّة أو خارجيّة، من مشاعر أو أفكار في السرّاء والضرّاء... فليس "عدم الاضطراب" احتقارًا للعالم أو للبشر أو للمشاعر البشريّة...، ولا هو رفض لها ولا إهمال لها ولا هروب منها؛ كما أنّه – على نقيض ذلك ــ ليس هو تهافتًا عليها ولا افتنانًا لها ولا انغماسًا فيها؛ بل هو الاعتدال والاتِّزان تجاهها.
ويعتبر الآباء الشرقيّون قِمّةَ الحياة الرّهبانيّة، في هذا المضمار، الوُصولَ إلى حالة السكينة؛ فما "عدم الاضطراب" سوى التمهيد والطريق للوُصول إلى "السكينة"، أي سكينة الشهوات والرّغبات والمشاعر... لبلوغ هدف الحياة الرّهبانيّة التعبُّديّة، ألا وهو حياة "التأمُّل" (Theoria)، حيث التكريس الكامل لحياة الصّلاة والاتِّحاد بالله.
ولم يقتصر ذلك على الرّهبنة الشّرقيّة، بل سعت إليه الرّهبانيّات الغربيّة، ولا سيّما الرّهبانيّات "التعبُّديّة" أو "المُشاهِدة". فلقد شدّد القدّيس برونو (1030-1101)، مؤسِّس الكَرْتوزيِّين، على "السّكينة" (باللاتينيّة Quies)، وهي لا تعني الرّاحة والخُمول والتواني، بل "السّكينة في المسيح"، أي الشّعور العميق بالاتِّزان بين "الحميّة الروحيّة" و"البحث عن الخبز اليوميّ"، بين البحث عن مشيئة الله وعن الطعام اليوميّ، أي بين الروحيّات والجسديّات. وتتّصف السّكينة هذه بـ"ثبات المزاج" وهي تنمُّ عن حرِّيَّة باطنيّة ورزانة كبيرة وسلام عميق وهدوء الرّوح.
وفي مطلع العصور الحديثة، فإنّ إغناطيوس دي لويولا (1491 -1556)، مؤسِّس الرّهبانيّة اليسوعيّة، سمّى الحرِّيَّة الداخليّة هذه بـ"عدم الانحياز"، ووصف الرئيسَ العامّ في هذا الصدّد بقوله: "عليه أن يتعالى على جميع الأحداث، فلا يستثيره النجاح ولا تُحطِّمه الشدّة" ("القوانين التأسيسيّة" عدد 728).
ويظلُّ الرئيسُ العامُّ نموذجًا لسائر الرّهبان. وأمّا تريزا الآبليّة (1515 – 1582)، مُصلحة الرّهبانيّة الكرمليّة، فلقد اشتهرت بهذا القول المأثور: "لا يُقلِقنّك شيء ولا يُفزعنّك شيء فكلُّ شيء يزول والله لا يتغيرّ. والصبر ينال كلّ شيء. فمَن له الله لا يُعوزه شيء فالله وحده يكفي".
اللطف (Charien)
إنّ اللطف من خصائص المعاملة مع الآخرين؛ وكان أنطونيوس يتحلّى بهذه الفضيلة التي كانت تجذب إليه الناس عامّة والنسّاك خاصّة؛ فكان "وجهه ذا نعمة كبيرة وعجيبة". فأصبح في هذه الفضيلة أيضًا مثالاً يُحتذى به. بل إنّ لُطفه تجاوز البشر ليشمل الحيوانات: "كانت وحوش البرِّيَّة تأتي لتشرب، ولكنّها كثيراً ما أتلفت البِذار والزرع. فأمسك بلطف وحشًا وقال للوحوش: لماذا تُسبِّبون لي الأذى وأنا لم أصنع لكم شرًا؟...".
فكان أنطونيوس يُحقِّق ما قاله إسحق السّريانيّ: "إنّ الحالة الفردوسيّة قريبة، وإنّ الوحوش تستنشق في الحكيم أو في القدِّيس ما كان لآدم من شذا قبل: فإنّها تذهب إليه في سلام". وأمّا القدِّيس نفسه، فإنّه – بحسب تعبير إسحق السُريانيّ – "عندما يُفكِّر في (الخليقة)، وعندما يراها، فإنّ عينيه تذرفان دُموعًا. ولشدّة شفقته وجُموحها (...)، فإنّ قلبه يتفطّر عندما يرى الشرّ والألم يعتريان أصغر الخلائق. ولذا، فإنّه يصلِّي بدموع في كلِّ لحظة (...) حتّى لأجل الحيّات، لما في قلبه من شفقة عارمة، لا حدود لها، على صورة الله".
هكذا، فإنّ الإنسان "يُقدِّس المرئيّ" في "ليتورجيّا كونيّة" (مكسيمُس المُعترف)؛ فتُصبح الخليقة كما كانت قبل سُقوطه "نشيدًا رائع التأليف" و"نَسقـًا موسيقيًّا" (غريغوريوس النيصيّ).
وأمّا رمزيّة "الحديث مع العصافير" أو "مجامع العصافير" أو "شريعة العصافير"...، فهي ظاهرة عالميّة في التصوُّف الإيرانيّ مثلاً، أو لدى القدِّيس فرنسيس الأسّيزيّ (حوالى 1182 – 1226)، أو اللاهوت الروسيّ ... ويرمز العصفور إلى الملاك، فكأنّ بالقدِّيس أو الوالي يتحاور مع السّماء، وحبُّ الإنسان للطبيعة والحيوان يُعلِّمه حبَّ الله. ومن جهّة أخرى، كانت الحيوانات، قبل زلّة الإنسان، ترى فيه صورة الله.
هذه هي أهمُّ الفضائل النسكيّة التي عاشها أنطونيوس ومن بعده الرّهبان شرقـًا وغربًا.
والسؤال هو كيف يمكن أن تعيش رهبانيّات اليوم الاستقرار؟ وما هي الفضائل الخاصّة بعالم اليوم؟
معاني الاستقرار المُعاصرة
سبق لنا أن رأينا أنّ الاستقرار يُساعد على اكتساب الفضائل، ولا سيّما الفضائل الرّهبانيّة. ونبغي هنا إبراز بعض الفضائل المُعاصرة الملائمة لظروف الخدمة في المجتمعات البشريّة في شرقنا العربيّ خاصّة، بالإضافة إلى الفضائل التقليديّة السّالفة الذكر:
فضيلة الجدِّيَّة في الدرس
ممّا لا شكّ فيه أنّ خدمة المجتمع تتطلّب اليوم كفاءة تستدعي تكوينًا دينيًّا ومدنيًّا مناسبًا وبالتالي، فإنّ الدرس ينال أهمِّيَّة بالغة استعدادًا للخدمة. وتكمن الفضيلة لا في الدّرس بحدِّ ذاته، بل في جدِّيّته. فللدرس مُتطلِّباته الزهديّة – التي لا تقلُّ قيمةً عن التقشُّفات النسكيّة التقليديّة – من مجهود وضبط نفس، ومن مواظبة ومثابرة، ومن إتقان ورزانة... وليس الهدف من الدّرس الحصول على شهادات، وإن كانت الشّهادات لا تخلو من الأهمِّيَّة في عالمنا هذا. وبالتالي فليس الهدف تَلقِّي معلومات بطريقة سلبيّة، بل يكمن الهدف في التكوين الشخصيّ والمهنيّ، في سبيل خدمة المجتمع البشريّ خدمة أوفر.
فضيلة الإتقان في العمل
كما أنّ خدمة الآخرين تتطلّب إتقاناً في العمل وعدم الاكتفاء بالعمل التقريبيّ كما يحدث في عدّة مجتمعات ووظائف. فلأنّ الخدمة خدمة أشخاص – أيّة كانت نوعيّتها ــ فهم جديرون بالإتقان في الخدمة، ولأنّ الخدمة تعبير عن التكريس لشخص يسوع المسيح ــ أيّة كانت نوعيّتها – فهي مُقدّسة. وبالتالي، فليست الخدمة وظيفة يُؤدِّيها الرّاهب أو العلمانيّ، بل هي التزام يُلزِم شخص الخادم كلَّه، إذ يُعبِّر من خلالها عن محبّته للمسيح وللمخدومين.
فضيلة التفاني والتضحية في الخدمة
وبناء على ما سبق، فمن مُتطلِّبات الخدمة لدى الرّاهب الخادم أو العلمانيّ الملتزم في المجتمع تفاني شخصه وتضحيته، اقتداءً بيسوع الذي لم يجد أحيانًا وقتًا لنفسه، والذي تحمّل جميع ألوان الاضطهادات والإهانات والانتقادات...؛ وعلى غرار بولس الذي كرّس حياته كلّها للخدمة، بما كان ذلك يفرضه عليه من مشقّات وشدائد ومتاعب ومضايق واضطهادات... (راجع 2 قور 4/ 7 ت و11/ 23-29 ...). فلولا فضيلة تحمُّل ذلك في سبيل الربِّ والمخدومين، فلا خدمة حقيقية على الإطلاق.
ونتيجةً لذلك، فلا مكان للحساسيّة التي كثيرًا ما تُقوِّض أُسس الخدمة. وكذلك لا مكان للمزاجيّة التي تُقلِّل من قصد الخدمة القويم، ألا وهو خدمة الآخرين، ولا خدمة الذات من خلال خدمة الآخرين.
هذه بعض الفضائل التي ينبغي للخادم في مجتمعات اليوم أن يتحلّى بها.
الخاتمة
يُلخِّص كاسِّيانُس ما عاشه أنطونيوس وما على كلِّ راهب أن يعيشه في التدرُّج الآتي:
يشرع الرّاهب في التجرُّد من الممتلكات والعلاقات البشريّة، الأمر الذي يُفضي به إلى التجرُّد من الخطيئة والرذائل – ولا سيّما الأنانيّة والكبرياء والشّهوة... ــ وهذا هدف من أهداف حياة الرّاهب الشخصيّة؛ ممّا يُؤدِّي به إلى التجرُّد من كلّ ما هو ليس الله وليس الملكوت، وهذا هو هدف الحياة الرهبانيّة الأقصى ومعناها الأهمّ، حتّى يصل الرّاهب إلى فضيلة المحبّة وهي نهاية الكمال البشريّ كما أنّ الآب كامل.
ويؤول بنا هذا الكلامُ إلى استنباط روحانيّة فضيلة الاستقرار في مجتمعاتنا البشريّة المُعاصرة، ولا سيّما في حياة الخدمة، سواء أكانت الخدمة التي يقوم بها الرّهبان أم الخدمة التي يقوم بها العلمانيّون.
علينا أن نُنمِّي في روحانيّتنا الشرقيّة روحانيّة تحمُّل مشقّات الخدمة، وهي وجه معاصر من وجوه الزهد والتقشُّف والنسك التقليديّة. وهذه أهمُّ ملامحها باختصار شديد:
ففي محكِّ صعاب الخدمة ومشقّاتها، يختبر الخادم ضعفه الشخصيّ وعدم مقدرته على القيام بأيّة خدمة لولا نِعمَة المسيح وقوّة الرّوح القدس؛ ممّا ينمِّي فيه الثقة بالآب - رغم غيابه الظاهر، الأمر الذي اختبره يسوع المسيح نفسه في نزاعه ببستان الزيتون وعندما كان على الصّليب ــ ، فالآب يعمل دائمًا ويُحوِّل الفشل إلى نجاح والألم إلى مجد والموت إلى حياة، لأنّ "جميع الأشياء تعمل لخير الذين يحبُّون الله" ( روم 8/ 28).
هكذا، فإنّ الخادم يزداد إيمانًا بالله الذي يُقوِّيه، فبِه يستطيع كلّ شيء (فل 4/ 13)؛ فيختبر المفارقة المسيحيّة في الخدمة، تلك التي اختبرها بولس: "عندما أكون ضعيفـًا أكون قويًّا" (2قور 12/ 10).
ومن ملامح روحانيّة الخدمة التي نحن بصددها، الاقتداء بالمسيح: "ما كان الخادم أعظم من سيِّده" ولا كان الرّسول أعظم من مرسله" (يو 13/ 16) "إذا اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضاً" (يو 15/ 20)... وقد اختبر بولس هذا الاقتداء اختبارًا حرفيًّا عبّر عنه خير تعبير: "أُتمُّ في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده وهو الكنيسة" (قول 1/ 24).
ويسوقنا ذلك إلى الإقرار بِبَعد روحانيّة الخدمة الرسوليّ: كلُّ ما يتحمّله الخادم هو في سبيل جسد المسيح، كما أنّ يسوع نفسه صرّح ليلة آلامه وموته: "أُكرِّس نفسي من أجلهم" (يو 17 /19). فالخادم مُكرَّس من أجل الآخرين؛ لا عجب إن تحمّل في سبيلهم ما يترتّب على الخدمة من مضايق ومشقّات، من اضطهادات وانتقادات...
هذه أهمّ ملامح روحانيّة الخدمة، بل وروحانيّة الفضيلة في الخدمة، وروحانيّة الاستقرار في المجتمع البشريّ؛ وهي ثلاثيّة المعالم: فهي وجوديّة – اختبار الضعف البشريّ – ممّا يُؤدّي بها إلى أن تكون إيمانيّة – مرجعيّة الله والاقتداء بالمسيح ــ لتكون في نهاية الأمر رسوليّة – الاشتراك في خلاص البشر- .
خاتمة الوجه الثالث
بين التَّرحال والاستقرار جدليّة، شأنها شأن جدليّة لقاء الله ومقاومة الشرِّير، وكذلك جدليّة الانفصال عن البشر والحضور لهم.
فحياة البرِّيَّة مزيج من الترحال والاستقرار، من استئصال الرذائل واكتساب الفضائل.
وما هو الأمر لدى العلمانيِّين؟ إنّ الحياة الرّهبانيّة – بتركيزها على الترحال – تُذكِّر العلمانيِّين بضرورة الترحال في الحياة العلمانيّة، لأنّ استقرارها في المجتمعات البشريّة قد يُصبح انغماسًا فيها وعدم حرِّيَّة تجاهها.
وإنّ الحياة العلمانيّة من جهّتها – بتركيزها على الاستقرار – تُذكِّر الرّهبان بضرورة الاستقرار في الحياة الرّهبانيّة، لأنّ ترحالها قد يُصبح عدم التزام وعدم ثبات. وعليه، فإنّ نمطـَيّ الحياة المسيحيّة – الرّهبانيّة والعلمانيّة ــ يُكمِّل واحدهما الآخر، ويُصحِّح واحدهما الآخر، ويُخصِب واحدهما الآخر.
ونجد في جدليّة الترحال والاستقرار ما وجدناه في ما سبق من جدليّة الوجود "في" العالم ـــ وهو عنصر الاستقرار ـــ ولا "من" العالم – وهو عنصر الترحال –. فالحياة المسيحـيّة أيًّا كان نمطها وشكلها – تحيا المُفارقة هذه والازدواج هذا والجدليّة هذه. وكلُّ نمط حياتيٍّ يعيش هذه الجدليّة بطريقته الخاصّ، وكلُّ شخص يعيشها بأُسلوبه الشخصيّ، إلّا أنّ الجميع يعيشون الترحال والاستقرار. هذا ما تُعلِّمنا إيّاه البرِّيَّة.
الخاتمة العامّة
للبرِّيَّة معانٍ روحيّة كثيرة وعميقة وثريّة للغاية، قد تلمّسناها من خلال مسيرتنا، ولم نكن فـي بدايتها نتوقّعها. فربّما قد بدأنا المسيرة ظانِّين أنّ البرِّيَّة تعني الرّهبان ولا سيّما الرّهبان المُتعبِّدين فحسب؛ وها نحن أدركنا أنّهم يُعلِّموننا جميعًا ضرورتها المسيحيّة. فإذا كانوا يعيشون البرِّيَّة مكانيًّا – بحرفيّتها – غير أنّهم يُذكِّروننا بمعانيها الرّوحيّة ــ بروحها لا بحرفيّتها ــ.
وعليه، فسواء أنظرنا إلى البرِّيَّة من وجهة نظر الأرواح، فوجدنا فيها لقاء الله ومقاومة الشرِّير؛ أم من وجهة نظر الأشخاص، فوجدنا فيها الانفصال عن البشر والحضور لهم؛ أم من وجهة نظر المادِّيّات، فوجدنا فيها الترحال والاستقرار؛ فإنّ البرِّيَّة موضعُ اختبار روحيّ وإنسانيّ غاية في العمق، ورمزٌ يتجاوز الحدود المكانيّة.
ويُلخِّص القدّيس برنارْدُس ما توصّلنا إليه في دراستنا هذه، عندما تحدَّث عن "معموديّـة البرِّيَّة".
فالبرِّيَّة، شأنها شأن المعموديّة، تجمع بين قُطبين مُتعارضين: الموت / الحياة. وذلك ما وجدناه في كُلِّ خطوة من خطوات تحليلنا: فهناك لقاء الله ومُقاومة الشرِّير؛ وهناك الحضور والانفصال؛ وهناك الاستقرار والترحال. فجميعها ترمز، في نهاية الأمر، إلى ازدواجيّة الموت والحياة، والآلام والمجد، والتضحية والفرح.
وخِتاماً لحديثنا عن معنى البرِّيَّة، نُورد نصًا لأحد رهبان القرن العشرين، الأخ شارل دي فوكو (1858 -1916) -، وقد ألهم رهبانيَّتَي "إخوة يسوع الصِّغار"، و"أخوات يسوع الصَّغيرات" وغيرهما من الرّهبان والمُكرَّسين والعلمانيِّين، المبنيّة على روحانيّة حياة يسوع في الناصرة.
وقد اختبر حياة البرِّيَّة اختبارًا عميقـًا، فترك لنا بإيجاز وصفـًا لضرورتها: "ينبغي اجتياز البرِّيَّة، والمكوث فيها لِنَيل نعمة الله؛ ففيها نُفرغ أنفسنا، ونطرد من أنفسنا كلّ ما هو ليس الله، ونُفرغ روحنا إفراغًا تامًّا لندع المكان كلّه لله وحده. (...) فلا بُدَّ منها (...) إنّها لَفترة نِعمَة.
إنّها لَمرحلة ينبغي لكلِّ نفس تريد أن تُثمر ثمرًا أن تجتازها. فالنفس هــي بمسيس الحاجة إلى هذا الصّمت، وهذه الخلوة، وهذا الإنكار لكلِّ الخليقة؛ فمن خلالها يُقيم الله مُلكه في النفس ويُكوِّن فيها الروح الباطنيّة، وحياة الأُلفة مع الله، وحوار النفس مع الله في الإيمان والرّجاء والمحبّة. وبعد ذلك، فسوف تُثمر النفس ثمرًا، بقدر ما يكون الإنسان الباطنيُّ قد تكوّن فيها".
فالبرِّيَّة مرادفة للحياة الروحيّة – بلقاء الله ونيل نِعمته – وللحياة الباطنيّة – بالصّمت والخلـوة ــ وللحياة النسكيّة ــ بالتحرُّر من الذات ومن الخليقة ــ.
وإن كان هذا هو معنى البرِّيَّة، بِغناه العجيب، فالسؤال المطروح هو: هل البرِّيَّة بهذا المعنى هي مُجرّد مكان جغرافيّ؟ يُجبب شارل دي فوكو، الذي اختبرها مكانيًّا ، أنّها مرحلة أيضًا في حياة الرّاهب، وقد رأينا أنّ مرحلة الابتداء مثلاً هي بمثابة حياة البرِّيَّة؛ وكذلك أنّها لقاء الله يتمُّ من خِلال الصّلاة مثلاً.
فإن كان لا بُدّ من اختبار البرِّيَّة – كمرحلة وكلقاء ــ فتُصبح البرِّيَّة رمزًا وروحًا – أكثر منها مكاناً ــ ، يمكن الرّهبان والعلمانيِّين أن يعيشوها وإن كانوا في خارجها، أي في صميم المُجتمعات البشريّة.
الأب فاضل سيداروس اليسوعي
من كتاب: "معنى البرّيّة لزماننا الحاضر"