البابا يترأس رتبة سجدة الصليب لمناسبة الجمعة العظيمة «متفرقات
ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة من عصر الجمعة رتبة سجدة الصليب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة الجمعة العظيمة بحضور حشد غفير من الكرادلة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين، وتخللت الرتبة عظة ألقاها الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي تحت عنوان "َدَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم". وقد استهل عظته بالقول:
"وهذا كُلُّه مِنَ اللهِ الَّذي صالَحَنا بِالمسيح وأَعْطانا خِدمَةَ المُصالَحَة... فنَسأَلُكُم بِاسمِ المسيح أَن تَدَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم. ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله. ولمَّا كُنَّا نَعمَلُ معَ الله، فإِنَّنا نُناشِدُكم أَلاَّ تَنالوا نِعمَةَ اللهِ لِغَيرِ فائِدَة. فإِنَّه يَقول: "في وَقتِ القَبولِ استَجَبتُكَ، وفي يَومِ الخَلاصِ أَغَثتُكَ. فها هُوَذا الآنَ وَقتُ القَبولِ الحَسَن، وها هُوَذا الآنَ يَومُ الخَلاص" (2 كور 5، 18- 6، 2).
إن دعوة الرسول لنتصالح مع الله لا تشير إلى المصالحة التاريخية بين الله والبشريّة، وإنما إلى مصالحة وجوديّة وشخصيّة تتم في الحاضر. إنها دعوة موجّهة لمسيحي كورنتس المعمّدين والذين يعيشون منذ زمن داخل الكنيسة وبالتالي فهي موجّهة لنا نحن أيضًا هنا والآن. ولكن ما هو المعنى الوجودي والنفسي للمصالحة مع الله؟ لنكتشفه يكفي أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا: ما هي الأفكار والمشاعر التي تُخالجك قبل كلِّ تأمُّل عندما وخلال تلاوتك لصلاة الأبانا تصل إلى القول: "لتكُن مشيئتك؟".
غالبًا ما يُنظر إلى الله كالكائن الأسمى والضابط الكل، رب الزمن والتاريخ أي ككائن يفرض نفسه على الأفراد من الخارج، فيبدو الله كالذي يتدخّل من خلال القصاص الإلهي ليعيد إحلال النظام الذي بلبله الشرّ. بالتأكيد لم تتجاهل المسيحيّة أبدًا رحمة الله! ولكنها اهتمّت فقط بواجب تخفيف قساوة العدالة؛ فالعدالة كانت الاستثناء لا القاعدة.
ولذلك تُشكِّل سنة الرحمة المناسبة الذهبيّة لإعادة إظهار الصورة الحقيقيّة لله البيبلي الذي لا يتصرف برحمة وحسب وإنما هو رحمة. وهذا التأكيد الشجاع يقوم على واقع أن "الله محبّة". ففي الثالوث الله هو محبة وحسب ولكن عندما يخلق الكون والكائنات يصبح حب الله نعمة ورحمة. إن خطيئة الإنسان لا يمكنها أن تغيّر طبيعة هذا الحب ولكنّها تدفعه للقيام بقفزة نوعيّة فينتقل من الرحمة كعطيّة إلى الرحمة كمغفرة.
ما مصير عدالة الله إذًا؟ هل تُنسى أو يتم التخفيف من قيمتها؟ على هذه الأسئلة يجيب القديس بولس في رسالته إلى أهل روما قائلاً: "أَمَّا الآن فقَد َظهرَ بِرُّ اللّهِ"، ولكن ما هو هذا البرّ؟ إنه تلك العدالة التي تعطي كل شخص ما يستحقّه، فالله يكتب القديس بولس: "يُجازي كُلَّ واحِدٍ بِحَسَبِ أَعمالِه، إِمَّا بِالحَياةِ الأَبَدِيَّةِ لِلَّذينَ بِثَباتِهم على العَمَلِ الصَّالِح يَسعَونَ إِلى المَجدِ والكَرامةِ والمَنعَةِ مِنَ الفَساد وإِمَّا بِالغَضَبِ والسُّخْطِ على الَّذينَ يَثورونَ فَيَعصُونَ الحَقَّ ويَنقادونَ لِلظُلم" (روما 2، 6-8).
لكن القديس بولس لا يكتب عن هذه العدالة عندما يقول "أَمَّا الآن فقَد ظهرَ بِرُّ اللّهِ"، لأن هذه ليست الحداثة التي حملها المسيح، ولذلك لنصغي إلى ما يقوله الرسول في هذا السياق: "ذلِكَ بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجْدَ الله، ولكِنَّهم بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع، ذاكَ الَّذي جَعلَه اللهُ كَفَّارةً في دَمِه بِالإِيمان ليُظهِرَ بِرَّه، بإِغضائِه عنِ الخَطايا الماضِيَةِ في حِلمِه تَعالى، لِيُظهِرَ بِرَّه في الزَّمَنِ الحاضِر فيَكونَ هو بارًّا وُيبَرِّرَ من كانَ مِن أَهلِ الإِيمانِ بِيَسوع" (روما 3، 23- 26).
الله يجعل من نفسه عدالة بواسطة الرحمة! هذا هو الوحي الكبير. يقول القديس بولس الله هو بار ويبرِّر، أي أنه بار مع نفسه عندما يبرّر الإنسان، في الواقع هو محبّة ورحمة ولذلك يبرّر نفسه، أي يظهر على حقيقته عندما يتصرّف برحمة.
يكتب القديس أغوسطينوس في هذا السياق إن عدالة الله هي التي بواسطتها وبنعمته نتبرّر بها، تمامًا كما أن خلاص الرب هو الخلاص الذي يخلّصنا الله بواسطته. بمعنى آخر عدالة الله هي الفعل الذي من خلاله يبرّر الله جميع الذين يؤمنون بابنه ويجعلهم مقبولين في عينيه.
وهذا ما يؤكّده لنا أيضًا الكتاب المقدّس: "لَمَّا ظَهَرَ لُطفُ اللهِ مُخَلِّصِنا ومَحَبَّتُه لِلبَشَر، لم يَنظُرْ إِلى أَعمالِ بِرٍّ عمِلناها نَحنُ، بل على قَدرِ رَحَمَتِه خَلَّصَنا" (طيط 3، 4-5) "لكِنَّ اللهَ الواسِعَ الرَّحمَة، لِحُبِّه الشَّديدِ الَّذي أَحَبَنَّا بِه، مع أَنَّنا كُنَّا أَمواتًا بِزَلاَّتِنا، أَحيانا مع المَسيح، بِالنِّعمةِ نِلتُمُ الخَلاص" (أفسس 2، 4 - 5).
لذلك فعندما نقول أن "برُّ الله قد ظهر" فنحن كمن يقول لقد ظهر صلاح الله ومحبّته ورحمته. وبالتالي لم يكتف الله على الصليب أن يغفر خطايا الإنسان وحسب، بل أخذها على عاتقه، فابن الله، يكتب القديس بولس، جعل من نفسه خطيئة من أجلنا. وفي هذا السياق يكتب القديس برناردوس: إن الله لم بموت ابنه وإنما بإرادته بأن يموت من أجلنا؛ وبالتالي فنحن لم نخلّص بالموت وإنما بالحبّ! لأن محبّة الله قد بلغت الإنسان حتى في النقطة الأبعد التي وصل إليها أي في الموت، وموت المسيح هو الدليل الأسمى لرحمة الله تجاه الخطأة.
حان الوقت لندرك أن الرحمة ليست نقيض العدالة وإنما نقيض الانتقام، فيسوع لم يضع الرحمة في وجه العدالة وإنما في وجه الشريعة القائلة "العين بالعين والسنُّ بالسنّ". إن حقد ووحشيّة الاعتداءات الإرهابية التي وقعت خلال هذا الأسبوع يساعداننا على فهم القوة الإلهيّة التي تحملها كلمات يسوع الأخيرة: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23، 34).
إن محبة الله كانت وستبقى على الدوام أكبر من حقد البشر وكراهيّتهم. وبالتالي ينبغي علينا أن نفضح الانتقام إذ أصبح أسطورة سائدة تعُدي كل شيء وكل شخص، بدء من الأطفال. لقد قيل سابقًا أن الجمال سيخلّص العالم، لكن الجمال بإمكانه أيضًا أن يحمل على الدمار. ولكن هناك أمر واحد يمكنه أن يخلّص العالم حقًّا وهو الرحمة! رحمة الله للبشر ورحمة البشر لبعضهم البعض.
وختم الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي عظته بالقول لنصلِّ: أيها الآب السماوي باستحقاقات ابنك الذي على الصليب "صار خطيئة" من أجلنا، إنزع الرغبة بالانتقام من قلوب الأشخاص والعائلات والشعوب. ولتجد نيّة الأب الأقدس في إعلان هذه السنة سنة للرحمة جوابًا ملموسًا في قلوبنا فتجعلنا جميعًا نختبر في أعماق قلوبنا فرح المصالحة معك.
أذاعة الفاتيكان.