"إنّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الضائع ويخلّصه" (لو19: 10) «متفرقات



"إنّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الضائع ويخلّصه"  (لو19: 10)



"إنّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الضائع ويخلّصه"  (لو19: 10)


1. لقاء المسيح بزكّا العشّار، وتوبة هذا الأخير وخلاصه مع أهل بيته، نموذجٌ عن كيفيّة بحث المسيح، بواسطة خدمة الكنيسة، عن كلِّ إنسان، كي يخلّصه. وكما وضع زكّا نفسه على طريق يسوع، فتسلّق جمّيزةً ليراه، كذلك كلُّ واحد وواحدة منّا بحاجة لأن يخرج من دائرة نفسه وتفكيره ونظرته إلى الحياة، ومن عاداته وتصرّفاته المألوفة، وينظر إلى المسيح من أعماق القلب، لكي يلتقي نظره بنظر المسيح، ويتمّ التحوّل في حياته الشخصيّة. فالمسيح "ابنُ الإنسان جاء ليبحث عن الضّائع ويخلّصه" (لو19: 10).


2. المكرَّم البطريرك الكبير اسطفان الدويهيّ التقى المسيح ورحمته ونعمته، وهو بعمر ثلاث سنوات، عندما أصبح يتيمًا بوفاة والده المبكّرة. وازداد لقاؤه بالمسيح، عن وعي وإيمان في قلبه الطّاهر، عندما أرسله نسيبه المطران إلياس الإهدنيّ، في عهد البطريرك جرجس عميره الإهدنيّ، إلى المدرسة المارونيّة في روما، وكان بعمر إحدى عشرة سنة.


في روما راح يزداد تعلُّقًا بالمسيح، من خلال العلوم والحياة الرّوحيّة العميقة وتأليف الكتب اللّيتورجية والأسراريّة، ومن خلال التعمّق في الرّوحانيّة المارونيّة والإرث الإهدنيّ الغنيّ، والتّقاليد الرّسوليّة والكنسيّة في عاصمة الكثلكة، حيث قضى أربع عشرة سنة.


3. وكم ارتفع في سلّم الفضائل ووثّق اتّحاده بالله بالصّلاة والعمل الرّسوليّ، بعد عودته إلى لبنان، حيث راح يكرز بالإنجيل، ويعلّم ويعظ ويرشد، ويُنشئ المدارس في كلّ مراحل حياته: ككاهنٍ أوّلًا، في إهدن وأرده وجعيتا، وبلاد الشّوف وصيدا والبقاع، وفي حلب؛ ثمّ كأسقف في أبرشيّة جزيرة قبرص بعمر ثماني وثلاثين سنة؛ وأخيرًا كبطريرك على كرسي أنطاكية بعمر أربعين سنة. فساس الكنيسة المارونيّة بروح القداسة والحكمة والصّبر على الصّعوبات والمحن والتّعدّيات مدّة أربع وثلاثين سنة. وتوفّي برائحة القداسة وهو في الرّابعة والسّبعين من العمر، تاركًا أثرًا طيّبًا في النفوس يتناقله أبناء إهدن - زغرتا، جيلًا بعد جيل؛ ونتاجًا فكريًّا وتعليميًّا كبيرًا في مؤلفاته ومخطوطاته ورسائله.


4. يسعدنا أن نحتفل معًا بذكرى مولد هذا البطريرك الكبير المكرّم اسطفان الدويهيّ، فقد أبصر النّور في إهدن في 2 آب 1630، أي منذ ثلاثماية وخمس وثمانين سنة. ولكن بالرّغم من هذه السّنوات الطويلة التي تفصلنا عنه، فإنّه حاضر في الخاطر والذاكرة والصّلاة كأنّه معاصر لنا وللَّذين سبقونا، بل سيظّل أيضًا معاصرًا للَّذين يأتون من بعدنا.


فهذا شأن الأبرار والقدِّيسين، الذين يقول عنهم الربّ يسوع: "ويتلألأُ الأبرارُ كالشَّمس في ملكوت أبيهم" (متى 13: 43). ملكوت الآب هو الكنيسة الممجَّدة في السّماء، والكنيسة المجاهدة على الأرض. إنّنا في إحياء ذكرى مولده على الأرض، نحيي أيضًا مولده في السّماء بوفاته البارّة في 3 أيار 1704. فالتّاريخ يشهد أنّ قداسته كانت تشعّ من وجهه ومن أقواله وأفعاله وتصرّفاته، وعكستها آياتٌ ومعجزات بصلاته.


5. نصلّي اليوم، لكي يُظهر الله قداستَه، فتكرِّمه الكنيسة على المذابح، وتكتب اسمه بين القدِّيسين في السّماء. على هذه النيّة استعدّيتم بأسبوع الصّلاة الذي بدأتموه في هذه الرّعيّة مساء الأربعاء الماضي بزيارة ضريحه في قنوبين، ثمّ تباعًا يومًا بعد يوم بساعة سجود احتفاليّة في هذه الكنيسة، وبقدّاس احتفاليّ مع الأخوِّيات ومسيرة تكريم، فصلاة المساء في كنيسة مار بطرس وبولس وإضاءة الشّموع على شرفات منازلكم. ونصلّي أيضًا إلى الله كي ينال المؤمنون والمؤمنات، الذين يلتمسون شفاعته، النّعم التي يحتاجون إليها.


نحن في كلّ ذلك، لا نقوم بأفعال عبادة تكريمية له، إذ لا يحقّ لنا ذلك قبل أن تعلنه الكنيسة طوباويًّا. بل نصلّي إلى الله لكي يتمّ ذلك، إذا كانت هذه مشيئته. فبعد أن أعلنته مكرّمًا بإصدار قرار إعلان بطولة فضائله، فإنّها تنتظر تأييدًا إلهيًّا لحكمها البشريّ بأعجوبة تجري على يده وتقبلها السّلطة العُليا في الكنيسة.


6. "إبن الإنسان جاء ليبحث عن الضّائع ويخلّصه" (لو19: 10). لا أحد يستطيع أن يعيش، من دون المسيح، حياة سعيدة وذات معنى. فبتجسّده إنسانًا، وهو الله، اتّحد نوعًا ما بكلّ إنسان، لكي يقطع الطّريق معه بشكل آمنٍ وبنّاء. فقد قال عن نفسه: "أنا الطّريق والحقّ والحياة" (يو 14: 6).


هو طريق الإنسان إلى ذاته وإلى الإنسان الآخر، لأنّه فكّر بعقل إنسان، وأحبّ بقلب إنسان، وصنع الخير بإرادة إنسان، وبارك وأعطى بيد إنسان؛ وهو الحقّ الذي ينير درب الإنسان ويحرّره من الإنحراف؛ وهو الحياة التي ينالها كلّ من يسير على هذا الطريق، ويسلك بنور الحقيقة. والحياة هنا تعني الخلاص الذي ناله زكّا، بتوبته عن أخطائه، وبقراره في تصحيح مسار حياته، فامتلأ هو وبيته فرحًا وسعادة إلهيّين.


7. المكرّم البطريرك إسطفان الدويهيّ سار حياته كلّها على خُطى المسيح في "طريق الحقّ والحياة". ولذا امتلأ غيرةً كبيرةً في مساعدة جميع النّاس، حيثما وُجد، ليسلكوا هذا الطّريق المستنير بالحقيقة، والمؤدِّي إلى سعادة الحياة وخلاصها.


بنتيجة التّحقيق في دعوى تطويبه، أصدرت السّلطة العُليا في الكنيسة، المُختصّة بمجمع دعاوى القدّيسين، قرار الإعلان بأنّ "خادم الله البطريرك إسطفان الدويهيّ مارس ببطولة الفضائل الإلهيّة: الإيمان بالله والرّجاء بعنايته والمحبّة له وللقريب، وفضائل الفطنة والعدالة والاعتدال والقوّة، وما يتفرّع عنها من فضائل روحيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة".


إنّ العلوم الواسعة التي حصّلها ونتاجه الكبير التّاريخيّ واللّيتورجيّ والأسراريّ ومراسلاته، كانت عنده بهدف النموّ في الفضائل. يشهد معرّفه أنّه لم يكن يجد مادّة لمنحه الحلّ من الخطايا. والمسلمون والمسيحيّون كانوا يصدّقون مَن يحلف بصلوات البطريرك الدويهيّ. ورفاقه في روما كانوا يشهدون لِسِعَة معرفته وسُموّ فضائله.


ويُجمع الكلّ على أنّ المكرَّم البطريرك إسطفان الدويهيّ، إبن إهدن، هو أعظم بطريرك على كنيستنا المارونيّة، والمرجعيّة الأفضل والأكثر موضوعيّة بين الّذين كتبوا تاريخها، والمنظّم الأوّل لطقوس العبادة فيها، وهو بين أهمّ المؤرّخين العرب في العهد العثمانيّ، وأبو تاريخ لبنان الحديث، والرّائد المميّز للنّهضة الفكريّة في الشّرق. كلّ ذلك على أساس من القداسة وغنى الفضائل والصّفات الرّوحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة.


8. هذا البطريرك العظيم حدّد في كتاباته العديدة الهويّة المارونيّة والوجدان التّاريخيّ. وهما حاجتنا الماسّة اليوم كموارنة ولبنانيّين، في زمن الضّياع هذا. وينبعان من مصادر ستّة.


أ – الدِّين: يشكّل ثقافة جماعة وشعب. فالإيمان ليس فقط مجموعة عقائد يلتزم بها المؤمن والجماعة، بل مدعوّ ليصبح قرار شعب يربط أفراده وأجياله برباط الفاعليّة التاريخيّة. فيأخذ الشّعب موقعه الثقافيّ والإجتماعيّ والوطنيّ، ويحدّد اتّجاهه، من أجل المحافظة على ذاته، في أوساط غريبة عنه، ويُسهم في بناء الوحدة والتنوّع.


ب – الأرض: هي المكان الحافظ للهويّة، وتشكّل المجال الحيوي للجماعة فلا تشعر فيه بالغربة. ليست الأرض فقط ترابًا وشجرًا وصخورًا وينابيع، بل تتحوّل إلى تعبير عن روح الإستقلاليّة عند الجماعة، وتصير مجالًا ذاتيًّا أساسيًّا في سلوكها الحضاريّ. إنّ المحافظة على الأرض محافظة على الهويّة، ولذلك لا يستطيع أحد اقتلاعها أو إلغاءها، طالما نحن محافظون على أرضنا.


ج – التّاريخ: منه يولد الوجدان التّاريخيّ لدى الجماعة، إذ يحفظ ماضيها ويبني حاضرها ويستشرف مستقبلها. الوجدان التّاريخيّ لا يولد من الجنسيّة التي تُعطى من دون أي مجهود شخصيّ، بل من الهويّة التي هي مسارٌ تاريخي نولد منه، ونتربّى عليه، وننمّي ذاتنا في معطياته.


د – الإضطهاد: يشكّل بحدّ ذاته مهمازًا فاعلًا ليقظة الشّعب والتشبّث بهويّته ووجدانه التّاريخيّ، وبخاصّة إذا أصاب دينه أو أرضه أو كرامته. الاضطهاد يخلق روح العنفوان، ويوقظ الحريّة والنّخوة على إثبات الوجود.


ه – التّنظيم الاجتماعيّ: يحصّن كلّ مكوّنات الهويّة والوجدان التّاريخيّ. يجزم البطريرك الدويهيّ أنّ التّنظيم الإجتماعيّ الأبقى هو القائم على المُعتقد الإيمانيّ وبُنية المؤسسات الرّوحيّة، بينما التّنظيم القائم فقط على نتاج العقل البشريّ وحده، بمعزلٍ عن الثّوابت الدّينيّة، غالبًا ما يفشل، وينتهي بانتهاء مُطلقيه.


ز – المصير المشترك: هو الشّعور بأنّ كلّ فرد من الجماعة أو الشّعب مرتبط كيانيًّا بجميع الأفراد الآخرين، فيؤلّفون معًا جماعة غنيّة بتنوّع أعضائها، كقطعة فسيفساء. فلا تكون الجماعة مجموعة أفراد. إنّ للمصير المُشترك دورًا بارزًا في بناء الهويّة المجتمعيّة، وتكوين الوجدان التّاريخيّ. فما يهدّد الفرد يهدّد الجماعة كلّها، وما يهدّد الجماعة يهدّد الهويّة، وما يهدّد الهويّة يهدّد الوجدان التّاريخيّ والمصير المشترك.


9. في ذكرى مولد المكرّم البطريرك إسطفان الدويهيّ، نحن مدعوّون لوقفة ضمير أمام مكوِّنات هويتنا ووجداننا التّاريخيّ. فلا يمكن القبول بما نحن عليه اليوم: في واقعنا كشعب مارونيّ من جهة، ولبنانيّ من جهّة أخرى، وفي واقع مؤسّساتنا الدّستوريّة وعلى رأسها رئاسة الجمهوريّة المحكوم عليها بالفراغ منذ سنة وشهرَين، وبالتّالي واقع المجلس النيابيّ المعطَّل، ومجلس الوزراء المتعثِّر والمهدَّد بالتّعطيل، وفي واقع المؤسّسات العامّة، وواقع الفلتان والفوضى على كلّ صعيد.


إنّنا نصلّي إلى الله لكي يوقظ فينا وجدان البطريرك الدويهيّ وغيرته على الوطن والكنيسة، لكي نحافظ مثله على الهويّة والوجدان التّاريخيّ. فنستحقّ أن نمجّد الله بأعمالنا وإنجازاتنا وسيرة حياتنا الصّالحة. ونرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.


                                         


  عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي - موقع بكركي.

 بمناسبة مولد المكرّم البطريرك اسطفان الدويهيّ - إهدن - الأحد 2 آب 2015