إنكار المسيح لحفظ الحياة، حكمة أم خطيئة؟ «متفرقات
إزاء ما تواجهه كنيستنا شرقـًا وغربًا من إضطهاد متجدّدٍ ومتواصل، تحت أقنعة الإيديولوجيّات الملحدة أحياناً، أو العلمانيّة المتطرّفة التي تهمّش المسيحيّين في أكثر البلدان تقدّمًا، أو إضطهاد تيّارات الماديّة والإستهلاك واللّذة التي تدعو المؤمن الى تبنّيها، وصولاً الى الإضطهاد الدمويّ الّذي صار واقعًا في شرقنا مع تنامي الحركات الأصوليّة التي تنفي حقّ الإختلاف، وترفض شرعة حقوق الإنسان في حرّية الضمير والمعتقد، وتسفك دماء المسيحيّين في العديد من الدولِ، لا بدّ من طرح السّؤال:
هل يمكننا إنكار إيماننا حفظاً لحياتنا؟ هل هي خطيئةٌ أن نرتدّ عن إيماننا في سبيل بقائنا الجسديّ؟ ألم ينكر بطرسُ المسيحَ حفاظاً على حياته، فغفر له المسيح؟ ألم يدعنا المسيح أن تكون لنا حكمة الأفاعي، فلِما لا نكون حكماء، نجحد إيماننا بالمسيح علناً ونؤمن بيسوع سرّاً، فنحافظ على بقائنا وننجو من التهميش أو الإضطهاد والموت؟ إن التحجّج باختبار بطرس لا ينفع في هذا الإطار، فبطرس لم ينكر المسيح الميت والقائم من بين الأموات، وحين أنكر المسيح، لم يكن قد اختبر حقيقة القيامة بعد.
لذلك نجد الأناجيل الإزائيّة تشدّد على السرّ المسيحانيّ دوماً في كلّ ما يتعلّق بالأحداث السّابقة للقيامة: فإثر كلّ معجزة أو حدث شفاء أو طرد أرواح، نرى يسوع يأمر الشّخص المعنيّ بالصّمت، فلا يخبر أحد ما تمّ معه. لماذا هذا التستّر؟ لأنّ يسوع لم يكن يريد أن يكون إيمان التلاميذ مبنيًّا على الخوارق والمعجزات، فيسوع ليس رجل المدهشات وصانع الخوارق، وحقيقته تتخطى بُعد المعجزات والأعاجيب، فهو ابن الله، وهو سيدّ الكون والمخلّص الأوحد.
هذه الحقيقة لا بدّ أن تنتظر ساعة الصّليب والقيامة لتتجلّى بملئها. لذلك كان الرّب يأمر الجميع دومًا بعدم البوح بما جرى معهم، فلا بدّ من الإعتراف بيسوع المتألّم على الصّليب والقائم من بين الأموات. يأتي نكران بطرس ليسوع في سياق مسيرة التتلمذ البطرسيّة، فهو التلميذ السّائر خلف الرّب، يتعرّف إليه، يسير خلفه، يكتشف سرّه كلّ يوم أكثر.
أنّ فعل الخيانة الذي اختبره رئيس جماعة الرّسل كان سابقاً لحدث القيامة، لذلك عاد يسوع فسأله مرّات ثلاثة بعد القيامة: «أتحبّني»، بدل الإنكارات الثلاثة التي أعلنها بطرس قبل القيامة. لذلك لا يمكننا أن نستعمل اختبار بطرس اليوم كيما نبرّر إمكانيّة إنكارنا للمسيح اليوم وقد عرفناه قائمًا من بين الأموات، وآمنّا به ربّاً وسيّدًا منتصرًا على الخطيئة والموت.
فبطرس الّذي عرف المسيح القائم إنطلق إلى البشارة حتّى بذل الدّم والتشبّه بالمسيح معلّمه ومخلّصه حتّى الصّليب، تشبّهاً بسيّده واقتداءً به. الحياة المسيحيّة هي دعوة إلى البطولة، وهي اختيار دائم ونهائيّ للمسيح، «فلا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوّات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة. ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي فى المسيح يسوع ربّنا» (روم ٣٨:٨-٣٩).
المسيحيّة ليست إنتماءً عقائديّاً أو التزاماً عنصريّاً، بل هي حقيقةٌ حياتيّةٌ تجد أسسها في المعموديّة: «فنحن الّذين اعتمدنا جميعاً في يسوع المسيح، إنّما اعتمدنا في موته، ودُّفنّا معه في موته بالمعموديّة لنحيا في حياةٍ جديدة» (روم ٦، ٣- ٤).
إذًا فالمسيحيّ هو كائن ميت عن هذا العالم، يحيا منطق العالم الآتي منذ الآن، وإن كان ميتًا، فلماذا يخاف الموت؟ نعم، علينا أن نكون ودعاء كالحمام، نُعلِن عبر حياتنا منطق السّلام والوداعة وقبول الآخر المُختلف، وعلينا أن نكون حكماء كالحيّات، والحكيم هو من يميّز بين الجوهريّ والهامشيّ، بين الحياة الحقـّة والحياة العابرة، ليشهد للحقيقة الواحدة، حقيقة المسيح ربّ الحياة والمخلّص الأوحد.
الحكمة لا تكمن في الهرب من الموت، بل في قبول الحياة الأبديّة. لقد قامت الكنيسة على ذخائر الشهداء، وارتوت جذورها بدماء أبطال أحبّوا المسيح حتّى الموت، فأثمرت دمائهم بشرى خلاص. كلّنا نخاف الموت، كلّنا نخشى الألم، كلّنا نسعى للبقاء، وإخوتنا شهداء الكنيسة الأولى أحبّوا حياتهم أيضاً، فبطرس لم يكن هدفه الصّليب، وبولس لم يكن مبتغاه السّيف، وإغناطيوس لم يكن يرغب بمخالب الأسود وأنيابها، وتقلا وبربارة وسيسيليا لم تكنّ هاويات ألم، كلّهم أحبّوا الحياة، ولكنّهم اختاروا النّصيب الأفضل، أحبّوا الحياة، فاختاروها أبديّة.
«لا نخافنّ من يستطيع قتل الجسد ولا يقدر أن يقتل النفس» (مت ١٠، ٢٨)، «فحياتنا هي المسيح، والموت ربح لنا» (في ١، ٢١)، « فلا نهاب خصومنا، ففي ذلِك دَلالةٌ لَهُم على الهَلاك، وَدلالَةٌ لَنا على خَلاصِنا.
وهذه نعمة من الله علينا، لأَنَّه أُنعِمَ علَينا، بِالنَّظَرِ إِلى المسيح، أَن نتأَلَّم مِن أَجلِه، لا أَن نؤمِن بِه فحَسبُ» (في ١، ٢٨- ٢٩). فلنعلن حبّنا للمسيح مبدأ الحياة وغايتها، وإن كان الثمن أن نضحي من عداد الآتين من الضيق الشّديد، غسلنا أثواب عمادنا نقيّة مبيّضة بدم الحمل (رؤ ٧، ١٤) لئلا نسمع صوت سيّد الرؤيا يقول لنا «عتبي عليك أنّك نسيت حبّك الأوّل» (رؤ ٢، ٤).
الأب بيار نجم ر.م.م.