إلى من نذهب يا ربّ، وكلام الحياة عندك ؟ «متفرقات
ما هذا الكلام الصّعب الذي لا يطيق أحد سماعه؟ يا ترى، ما الذي قاله يسوع ليتخلّى عنه من تلك الساعة كثير من تلاميذه وينقطعون عن مصاحبته؟ ماذا حلّ بيسوع ليجعل تلاميذه يتذمّرون؟ هل وبخّهم أو عاتبهم؟ هل لا سمح الله شتمهم أو نعتهم بسوء؟ لا. أعلن لهم فحسب عن معنى الحبّ الذي يحمله في قلبه لهم، فلم يطيقوا سماعه.
قال لهم إنّه يرغب من كلّ قلبه أن يعطيهم ذاته وحياته كي يحيّوا حقًّا كما يحيا هو بالآب الذي أرسله (يو6: 57)، قال لهم إنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل الحبّ أوّلاً، ويعني الحبّ أن يشارك المحبّ محبوبه كلّ ما عنده ولا يُبقي لنفسه شيئا، لأنّ في ذلك سعادته وهناءه، وهكذا يجد نفسه وفرحه ووجوده.
غذاء الإنسان الحقيقيّ هو الحبّ، فهذا ما ينعش القلب ويُحييه، كلّ أنواع الخبز زائل مهما بلغ طعمه من جمال وروعة، أمّا الحبّ فلا يزول أبدًا، لأنّه من الله يأتي وإلى الله يقود. خُلق الإنسان للحبّ والحياة ولن يرتاح قلبه إلّا فيهما.
والحبّ يظهر في الأفعال أكثر منه في الأقوال، وعندما يقول يسوع لتلاميذه إنّه يحبّهم، تتحوّل كلمته إلى فعل واقعيّ وملموس، يُعطي جسده ودمه لحياة أحبائه، يبذل كلّ حياته لهم. لا يعرف الحبّ إلّا أن يُعطي كلّ شيء، فلا يُمكن أن نحبّ بقدر معيّن أو إلى درجة ما.
عندما نعلن لشخص إنّنا نحبّه، فأنّنا نقول له إنّنا نحبّه من كلّ القلب وللعمر كلّه. هذا ما يقوله الأزواج بعضهم لبعض، وهذا ما يقوله الآباء والأمّهات لأولادهم، وفي ذهن كلّ هؤلاء يصير الحبّ عطاء كامل لا يعرف البخل ولا الحساب، ويموت إذا نظر لنفسه، ويختنق إذا أراد أن يستولي على الآخر.
ولكنّ الحبّ، إن كان يمثل بحث الإنسان الأوّل والأساسيّ، فهو في الوقت نفسه الأمر الذي يقلقه بل ويخيفه. لماذا؟ لأنّه يخلع الإنسان عن اكتفائه بذاته وضماناته، فهو يعرف حين يحبّ أنّ مصيره وحياته أصبحا في يد إنسان آخر يمنحه الفرح والسعادة، وأنّ لا حياة له إلّا مع الحبيب وبه.
الحبّ نوع من الضياع، من الإفتقار، ليجد الإنسان ذاته وغناه في الآخر. ويسوع كان الحبّ بذاته، لأنّه قبل أن يكون إبن الآب الحبيب، وأن يعطيه أبوه كلّ شيء (متّى11: 27)، فصار في الآب والآب فيه (يو14: 11)، ودفعه الحبّ لكي يكون في تلاميذه حتّى يكونوا هم فيه (يو6: 56)، وأن يمنحهم كلّ ذاته، جسده ودمه.
ولكنّ الكثيرين من تلاميذ يسوع يفضلون أن يصيروا تابعين له وليس رفقاء وأصدقاء، هم مستعدّون لخدمته ولا يتصوّرون أن يقوم هو بخدمتهم، يريدون أن يظلّوا عبيدًا في حين أنّ يسوع يدعوهم أحبّاءه (يو15: 15).
هذا حال الإنسان، هذا هو حالنا، نبحث عن الحبّ ولا نفهم معناه، نتغنّى به ونرفضه، نردّد كلماته ولا نقبله في واقع حياتنا ووجودنا. في كلّ مرّة، نتقدّم إلى سرّ الإفخارستيّا ونتناول جسد ودمّ يسوع، فأنّنا نقول له نعم نقبل أن تحبّنا إلى هذا الحدّ، نعم نقبل أن تفتقر لتغنينا، أن تموت لتحيينا، نعم نقبل أن تكون فينا لكي نكون فيك، وأن نسكن في الآب كما تسكن أنت فيه،
نعم نقبل أن تدخلنا في دائرة الحبّ التي تجمعك وتوحّدك بالآب والرّوح القدس، علّمنا يا ربّ أن نبذل حياتنا للآخرين بدون حساب، أن نحبّهم بدون انتظار لكلمة تقدير أو شكر، أن نُعطيَ جسدنا، أي مواهبنا وإمكاناتنا، صحّتنا ووقتنا، اهتمامنا وصبرنا وعناءنا للآخرين، حتّى لمن لا يفهم الحبّ، يرفضه أو يستهزئ به.
الحبّ حرّيّة، الحبّ مجانيّة، الحبّ فيض حياة، ولا يفرض يسوع حبّه على أحد، بل ينتظر في رجاء وثقة أن يتجاوب الإنسان بحرّيّة وفرح وامتنان. على التلاميذ وعلينا نحن أيضًا يطرح يسوع هذا السؤال بوجه شخصيّ: أتقبل حبّي، أما تريد أن تتركني مثلهم؟ ولكنّنا مع بطرس نقول من كلّ القلب: إلى من نذهب يا ربّ، وكلام الحياة عندك؟
أنت الحبّ والحياة، زدنا قربًا منك وإتّحادًا بك، اسكن فينا واملك على حياتنا، حوّلها بنعمتك إلى خبز وخمر للجموع الجائعة للحياة والمتعطشة للحبّ.
بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ