إجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيّق «متفرقات
إنّ السؤال الذي يطرحه الرّجل على يسوع بالأمس (لوقا 13: 22-30) هو سؤال النّاس عن الله اليوم: من تُراه يحبّه الله؟ وماذا نعمل ليرضى عنّا؟ وما نيّته تجاهنا؟ هل يستقبل جميع البشر في ملكوته؟ وما شروط الدّخول إليه؟ إنّ هذا الإله غريب، بعيد، هوائيّ، يخفي نيّاته ومشاريعه عن البشر، يتصرّف بنوعٍ من التسلّط والاستبداد، يُخيف الناس ويُرعبهم. وينمّ سؤال الرّجل ليسوع عن رغبة النّاس في تجنّب شرّ هذا الإله والرُّضوخ لأهوائه خوفًا من بَطشه.
وبماذا يجيب يسوع؟ يقول لنا وللرّجل إنّ بيت الله يتّسع للبشر جميعًا، وأنّ قلبه يشمل النّاس كلّهم بمحبّته ورحمته وحنانه.
إنّ المَحَك الحقيقيّ يكمُن في حرّيّة الإنسان وليس في نيّة الله. إنّ إرادة الله واضحة، عظيمة ورائعة، وهي أن يجلس حوله كلّ النّاس مِن المَشرق والمَغرب، من الشّمال والجنوب. إنّ باب بيته مفتوح دائمًا، يدخل إليه البشر ويخرجون ويجدون حياة وفرح وهناء (يو10: 9).
ولكن هل يقبل الإنسان دعوة الربّ للدّخول إلى بيته وأن يأكلوا معه في حضور الكثيرين والكثيرين؟ وما الذي يمنع الإنسان؟ يقول يسوع إنّ قبول دعوة الحياة والفرح والسّلام هو اختيار وقرار، اختيار الباب الضيق، وقرار بالمضيّ من خلاله مهما كانت الصّعوبات والتحدّيات.
وعلينا أن نعترف مبدئيًّا بأنّه غريب أن يطلب يسوع من تلاميذه أن يدخلوا من الباب الضّيق، فعادة ما يعد الرؤساء والأمراء الناس بالسِعة والرَحب إذا اتّبعوهم واعتمدوا وجهة نظرهم. ولكنّ يسوع لا يريد خداعنا بل أن يقودنا إلى الحياة الحقيقيّة، والحياة دائمًا هي بمثابة ولادة جديدة.
في الحقيقة، يريد الإنسان أن يحيا حياته كما يتخيّل السّعادة، أيّ في اللذّة الحسيّة بالتأكيد، تلك التي تأتي من الغنى والإستهلاك والإمتلاك بدون حدود، ويطلب في الوقت نفسه أن يضع يده على الله، بمعنى أن يجعل الله يرضخ لتصوّراته الشخصيّة وأن يبارك رؤيته للسّعادة وطرق بحثه عنها.
في هذه الحال، لم يعد الله آب، مصدر كلّ أبوّة وحياة في السّماء والأرض (أف 3: 15)، بل قوّة كونيّة مُبهمة من المفيد أن يضعها الإنسان في جانبه. أمّا إذا كان الإنسان يؤمن بالفعل بأنّ الله هو أبو يسوع المسيح، الذي جاء لتكون الحياة للنّاس وتكون بفيض وسِعة ورَحب (يو10: 10) فعليه أن ينقاد بروح الحياة الذي يفيضه يسوع على من يطلبه (لو11: 13).
والرّوح يناقض ما يشتهيه الجسد (غل5: 17)، والعالم من حولنا يحتقر ثمار الرّوح، من محبّة وفرح وسلام وصبر ولطف وصلاح وأمانة ووداعة وعفاف، لأنّها تعني بالفعل أنّ الإنسان المؤمن بيسوع المسيح قد صلب ذاته بكلّ ما فيها من أهواء وشهوات (غل5: 22-24)، أدار ظهره لطرق الحياة الكاذبة والخادعة التي يطلبها الجسد وتُعلِنها ثقافة العالم المحيط بنا، وقرّر أن يختار الحياة الحقيقيّة التي ظهرت في يسوع المسيح، من خلال كلامه وأعماله، موته وقيامته.
ولكن هل يمكن الإنسان فعلاً أن يرمي بذاته في يسوع المسيح بالإيمان، وأن يتخلّى عن ثقافة البحث الدّائم عن اللذّة، وأن يموت عن شهوة الغنى والسّلطة والجاه؟ إنّ ما هو مستحيل عند البشر مُمكن عند الله.
لا يُمكننا أن نختار الحياة إلا بطلبها من الله، ولا يُمكننا أن نقرّر في سبيل الحياة إلا بنعمة الرّوح القدس الذي يمنحه لنا يسوع. وهذا هو اختيار الحرّيّة، أن نطلب النّعمة من الله، أن نعبر الموت عن أشكال السّعادة الواهيّة لنتعرّف إلى الحياة الحقيقيّة التي تأتينا من الله.
إنّ الحياة تكمُن في الموت عن صور السّعادة، لنقبلها من يد الله فنعرف معه طعم الفرح والسّلام اللذين لا يستطيع العالم أن يعطيهما. بوسع العالم أن يغرق البشر في بحر اللذّة التي تقتل صاحبها، ولكنّ الله أبا يسوع المسيح، ربّ الحياة، هو من يمنح الحياة لأبنائه المؤمنين به. فهل نعرف اليوم أن نطلب ألّا نخاف من اجتياز الباب الضّيق الذي يقود إلى الحياة؟ لنطلب هذه النّعمة ونحن واثقين بأنّ الله الذي ألهمنا هذه الصّلاة هو من يحقّقها فينا.
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ