أنا ومريم «متفرقات
أنا ومريم
تحتفل الكنيسة الكاثوليكيّة في شهر أيّار/ مايو بالعذراء مريم، فتكرّمها وتجلّها في شهرها. وتقوم الرعايا والكنائس في مختلف أنحاء العالم تقريبًا بتنشيط صلوات المسبحة الورديّة والزيّاحات المتنوّعة، بل وفي شرقنا الكريم يزيد التكريم تكريمًا، فنقوم بتنظيم رحلات حجّ إلى لورد في فرنسا أو ميديغوريّة،
وكما أنّ الكنيسة تفكّر في الفقراء، الذين لا كُلفة لهم بالسَّفر البعيد، فتبتكر حجًّا إلى أديرتها العامرة في داخل البلاد شرقها وغربها، بل وتصل رحلات الحجّ إلى الكنائس الأثريّة التي تحمل إسم مريم العذراء. وزيادة لتكريم والدة الإله، تقام المهرجانات المختلفة والحفلات الترفيهيّة بل والمعارض السنويّة التي تعرض الأعمال اليدويّة لبيعها، ويعود ريعها إلى أنشطة الرَّعيّة المختلفة، كلّ بحسب حاجته.
هل هذا يكفي كي نُكرّم والدة الإله، حاملة الكلمة، أمّ النور، باب السّماء، سلطانة السماء والأرض، مريم العذراء؟! لا أظنّ... ففي اعتقادي أنّ الكنيسة كرّست هذا الشّهر بالكامل، بالإضافة إلى كثير من الأعياد الليتورجيّة التي تكرّم مريم العذراء، لتقول لنا شيئًا مهمًّا فما هو؟
مَن هي مريم العذراء؟
مريم العذراء، ليست هذا الشّخص الخارق الذي وُجدَ في العالم كي يؤدّي دور حاضنة الإله، وتنتهي مهمّتها بهذه الولادة العجائبيّة، بل هي إنسانة مِثلنا، واحدة من جنسنا، تربّت على التقوى، وخدمت الربّ في الهيكل. تعلّمت الصّلاة من والديها كما نحن أيضًا.
مريم هي كلّ شخص منّا قادر أن يقول "نعم" بكلّ جنون، ويدخل في قلب مغامرة لا يعلم نهايتها، بل يثِق بالداعي ثقة عمياء.
مريم هيّ كلّ شخص منّا يحمل المسيح، البُشرى السارّة، ويذهب مسرعًا، متخطيًّا الجبال، لخدمة الآخر، البعيد والقريب.
مريم هي كلّ شخص منّا يُصلّي "تعظّم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مُخلّصي".
مريم هي كلّ شخص منّا يقبل أن يعيش بسلام داخليّ في ظلّ ظروف صعبّة وأحوال عصيبة غير اعتياديّة وغير منطقيّة، كما في مغارة الميلاد أو الهروب إلى مصر.
مريم هي كلّ شخص منّا قادر أن يسمع ويُصغي ويفهم في قلبه علامات حضور الله في عالمنا المليء بالمتناقضات.
مريم هي كلّ شخص منّا يرى في أطفاله عطيّة الله، يهتمّ بتربيتهم، يُعلّمهم كيف يُحبّون وكيف يخدمون الآخر.
مريم هي كلّ شخص منّا يقدر أن يتخلّى بكلّ طواعيّة وحبّ منقطع النظير عن ابنه، فلذة كبده، لأنّه يؤمن به، لأنّه يؤمن بأنّه مدعو كي يعيش ذاته، ويحقـّق ذاته بذاته، دون أن يُسقط عليه وعلى حياته حلمه الشخصيّ.
مريم العذراء هي كلّ شخص منّا قادر أن يعيش مع الآخر ويُصغي له ويشاركه فرحه وقلقه، كما فعلت في عُرس قانا الجليل.
مريم العذراء هي كلّ شخص منّا قادر أن يقف تحت الصّليب، مشاركًا الحبيب قصّة حبّ هو بذاته جزء منها، يبكي ويتألّم، غير ساخط أو حاكم على الآخر، مهما كان عنيفـًا.
مريم العذراء هي كلّ شخص منّا قادر أن يستقبل الآخر في حياته، يستقبل كرسالة من شخص الحبيب، كما استقبلت في قلبها يوحنّا الحبيب كإبن لها.
مريم العذراء هي كلّ شخص منّا يشارك الكنيسة ضعفها وقوّتها، يحبّها بكلّ إنسانيّتها، يشجّعها ولا يتخلّى عنها، يكون شاهدًا دومًا على الرّوح القدس الذي يقودها.
هذا وغيره الكثير ممّا تدعونا إلى تأمّله الكنيسة خلال هذا الشّهر المُبارك، والمُخصّص لتكريم سيّدتنا مريم العذراء. وتدعونا أيضًا أن ننظر لأنفسنا على هذا النحو.
إلى ماذا تدعوني الكنيسة في هذا الشّهر بصفة شخصيّة؟
تقول لي الكنيسة إنّ مريم العذراء ليست هذا الشّخص الذي نضع حوله هالة القداسة وبالتالي نُبعده عن حياتنا اليوميّة، بل بالعكس هي أيضًا أنا وأنت يا عزيزي القارئ. هي أنا وأنت وكلّ شخص مسيحيّ مُعمّد. هي مَن قال عنه المسيح "فقيلَ له: «إِنَّ أُمَّكَ وإخوتَكَ واقِفونَ في خارِجِ الدَّارِ يُريدونَ أَن يَروكَ». فأَجابَهم: «إِنَّ أُمِّي وإخوَتي هُمُ الَّذينَ يَسمَعونَ كَلِمَةَ اللهِ ويَعملونَ بِها»." (لوقا 8: 20-21).
عندما نصلّي سويًّا السّلام عليك يا مريم يا ممتلئة نعمة الربّ معك، مباركة أنتِ في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك، سيّدنا يسوع المسيح، أُصلّي في ذات الوقت السّلام على أنا "فلان" ابن الله الممتلئ من نعمة الرّوح القدس لأنّي مسيحيّ مُعمّد، الرَّبّ معي في كلّ لحظة من حياتي، إنّه عمّانوئيل، مباركة هي كلّ أعمالي اليوميّة التي تجسّد حبّ المسيح لي، أعمالي وأقوالي وأفكاري التي تعكس حضور المسيح في حياتي.
ففي صلاة الورديّة لسنا مدعوّين لتكرار صلوات كالوثنيّين، بل للتأمّل في حياة مريم العذراء وحياتنا، كيف نتشارك سويًّا في حمل البشرى السارّة إلى عالمنا الذي في أمسّ الحاجة إليها، كيف نتشارك أنا وهي في ميلاد المسيح في كلّ لحظة من حياتنا.
مريم العذراء إنسانة مثلنا... نسعى جميعًا كي نكون على مثالها. آمين.
الأب ماريو بولس اليسوعيّ