"أرنا يا ربُّ رحمتك" (مز 85، 8). «متفرقات
ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة التاسعة والنصف من صباح الخميس قداس تبريك الزيوت المقدسة في بازيليك القديس بطرس، بمشاركة عدد من الكرادلة والأساقفة، والكهنة الأبرشيّين والرهبان الموجودين في روما، جدّدوا خلال الاحتفال مواعيد سيامتهم الكهنوتية.
وألقى الأب الأقدس عظة استهلّها بالقول: بعد قراءة نص أشعيا والإصغاء للكلمات التي خرجت من فم يسوع: "اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم" (لوقا 4، 21)، كان من الممكن أن يشتعل هيكل الناصرة بالتصفيق، كما وكان بإمكان الحاضرين أن يبكوا من الفرح، لكن الأناجيل تخبرنا أن المشاعر التي نشأت في مواطني يسوع هي معاكسة تمامًا: أبعدوه وأغلقوا قلوبهم. في البدء "كانوا يَشَهدونَ لَه بِأَجمَعِهِم، ويَعجَبونَ مِن كَلامِ النِّعمَةِ الَّذي يَخرُجُ مِن فَمِه" (لوقا 4، 22) ولكن من ثَمَّ جعلهم سؤال ماكر يبتعدون: "أَما هذا ابنُ يوسُف النجار؟"، "فثارَ ثائِرُ جَميعِ الَّذينَ في المَجمَع" (لوقا 4، 28) وأرادوا أن يلقوه عن حَرْفِ الجَبَلِ الَّذي كانَت مَدينتُهم مَبنِيَّةً علَيه... ليتمّ هكذا ما تنبّأ به سمعان الشيخ للعذراء: سيكون "آيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفض" (لوقا 4، 34)، فيسوع من خلال كلماته وتصرفاته يُظهر ما يحمله كل إنسان في قلبه.
فهناك يعلن الرب إنجيل رحمة الآب غير المشروطة تجاه الأشدَّ فقرًا والبعيدين، وهناك أيضًا نحن مدعوون لنختار و"نجاهِد في الإِيمانِ جِهادًا حَسَنًا" (1 طيم 6، 12). إن جهاد الرّبّ ليس ضدّ البشر وإنما ضدّ الشيطان، عدو البشريّة. لكن الرّبّ مرّ من بين الذين كانوا يحاولون إيقافه ومضى. فيسوع لا يحارب ليُقيم مكان سلطة. فإن كان يكسر الحواجز ويضع الضمانات محط الشك فذلك ليفتح ثغرةً على تيار الرحمة الذي يرغب مع الآب والروح القدس أن يفيضوه على الأرض. إن رحمة إلهنا لا متناهية، هي رحمة تسير ورحمة تسعى يوميًّا للقيام بخطوة إلى الأمام، للمضي قدمًا حيث يهيمن العنف واللامبالاة.
هذه هي ديناميكيّة السامري الصالح الذي تصرّف برحمة: تأثر ودنا من المجروح، ضمّد جراحه وحمله إلى الفندق، اعتنى به تلك الليلة ووعد أن يعود ليؤدّي ما سيتمّ إنفاقه زيادة على ذلك الرجل. هذه هي ديناميكية الرحمة. وكل فرد منا، إذ ينظر إلى حياته بنظرة الله الصالح، يمكنه أن يقوم بتمرين مع الذاكرة ليكتشف كيف عاملنا الرب برحمة، وكم كان رحيمًا معنا أكثر مما كنا نتصوّر، فنتشجّع هكذا لنطلب منه بأن يقوم بخطوة صغيرة أخرى تجاهنا ويُظهر رحمته لنا أكثر في المستقبل: "أرنا يا ربُّ رحمتك" (مز 85، 8).
ككهنة نحن شهود وخدَمَة لرحمة أبينا العظيمة، ولدينا الواجب المعزّي بأن نجسّدها على مثال يسوع الذي "مَضى مِن مَكانٍ إِلى آخَر يَعمَلُ الخيرَ ويُبرِئُ" (أعمال 10، 38) بأساليب عديدة ليصل إلى الجميع. يُمكننا نحن أيضًا أن نساهم في تجسيدها لكي ينالها كل إنسان في حياته الشخصيّة ويفهمها ويمارسها بدوره. واليوم في خميس الأسرار هذا من السنة اليوبيلية للرحمة، أريد أن أتحدث عن إطارين يفيض فيهما الرب رحمته علينا. الإطار الأول الذي نرى فيه فيض رحمة الله بشكل كبير هو اللقاء.
فهو يهب ذاته بشكل كامل ليصبح كل لقاء احتفال عيد. في مثل الأب الرحيم نقف مدهوشين أمام ذاك الرجل الذي يركض متأثرًا ويرتمي على عنق ابنه يقبّله. في تأمُّلنا المُفعم بالدهشة لهذا الفيض من الفرح للآب الذي تسمح له عودة ابنه بالتعبير بحريّة عن محبّته بدون مقاومة أو مسافات، ينبغي علينا ألا نخاف من أن نستفيض بشكرنا.
إن الرحمة تُصلح كل شيء وتُعيد للأشخاص كرامتهم الأولى، لذلك فإن الشكر الفيّاض هو الجواب الصحيح: ينبغي أن ندخل فورًا إلى العيد، ونلبس الحلّة الجديدة، ونزيل أحقاد الابن الأكبر ونفرح ونعيّد... لأنه هكذا فقط من خلال المشاركة الكاملة في جو الإحتفال يمكننا أن نفكّر جيّدًا ونطلب المغفرة ونرى بشكل أوضح كيف يمكننا أن نعوّض الشر الذي ارتكبناه.
أما الإطار الثاني الذي نرى فيه فيض رحمة الله بشكل كبير فهو المغفرة عينها. فهو لا يغفر الذنوب التي لا تحصى وحسب وإنما يجعلنا نعبر من الخجل المُخزي إلى الكرامة الأسمى. أما نحن فنتوق للفصل بين الموقفين: عندما نخجل من الخطيئة نختبئ ونسير خافضين رؤوسنا على مثال آدم وحواء، وعندما نُرفع إلى كرامة ما، نسعى لإخفاء الخطايا ونفرح بالافتخار والتباهي.
ينبغي على جوابنا على مغفرة الرب الفائضة أن يقوم على أن نحافظ على أنفسنا على الدوام في ذاك التوق بين الخجل السليم والكرامة التي تعرف كيف تخجل: أي موقف الشخص الذي يحاول أن يتواضع ويتنازل ولكنه يقبل أن يرفعه الرب من أجل خير الرسالة. إن المثال الذي يقدّمه لنا الإنجيل والذي يمكنه أن يساعدنا عندما نعترف هو مثال بطرس الذي يسمح ليسوع بأن يُسائل محبّته وفي الوقت عينه يجدد قبوله لخدمة رعاية القطيع الذي يكله الرب إليه.
لكي ندخل بشكل أعمق في هذه الكرامة التي تعرف كيف تخجل، يمكن أن يساعدنا نص النبي أشعيا الذي يقرؤه الرّبّ اليوم في هيكل الناصرة، إذ يتابع النبي ويقول: "تُدعَونَ كهنةَ الرّبِّ وتُسَمَّونَ خدَمةَ إلهِنا" (أشعيا 61، 6). إنه الشعب الفقير والجائع وسجين الحرب الذي لا مستقبل له. وككهنة نحن نمتثل بذاك الشعب المهمّش، الذي يخلّصه الرب، ونتذكّر أن هناك العديد من الأشخاص الفقراء والجاهلين والمساجين الذين يعيشون في تلك الأوضاع بسبب الذين يستضعفونهم ويظلمونهم.
ويسوع يأتي ليفتدينا ويُخرجنا ويحوّلنا من فقراء وعميان، ومن سجناء ومُستضعفين إلى خدَمة رحمة وعزاء. ويقول لنا بكلمات النبي حزقيال للشعب الذي كان قد زنى وخان الرب: "أمَّا أنا فأذكرُ عَهدي معَكِ في أيّامِ صِباكِ... عِندَ ذلِكَ تذكرينَ أنتِ طُرقَكِ وتَخجلينَ حينَ أرضى عَن أُختَيكِ اللَّتينِ هما أكبرُ مِنكِ، وعَنِ اللَّواتي هُنَّ أصغرُ مِنكِ، فأَجعَلُهُنَّ لكِ بَناتٍ، ولكن لا يكونُ عَهدي معَهُنَّ كعَهدي مَعكِ. وأُجدِّدُ عَهدي مَعكِ، فتعلَمينَ أنِّي أنا الرّبُّ، حتى تتذكَّري وتشعُري بِالخزي ولا تفتحي فَمكِ مِنْ بَعدُ لعارِكِ، حينَ أغفِرُ لكِ جميعَ ما فعلْتِ، يقولُ السَّيِّدُ الرّبُّ" (حزقيال 16، 60- 63).
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول في هذه السنة اليوبيليّة نحتفل، بكل الامتنان الذي يمكن لقلبنا أن يعبِّر عنه، بأبينا ونرفع صلاتنا إليه لكي يذكرنا على الدوام برحمته؛ ونقبل، بكرامة تعرف كيف تخجل، الرحمة في جسد ربنا يسوع المسيح المجروح، ونسأله أن يغسلنا من جميع خطايانا ويحرّرنا من كل شرّ؛ وبنعمة الروح القدس نلتزم بنقل رحمة الله لجميع البشر ونمارس الأعمال التي يولّدها الروح القدس في كل فرد من أجل الخير العام لشعب الله الأمين بأسره.
إذاعة الفاتيكان.