آهٍ، متى يأتي الله لينتقم؟! «متفرقات
في غمرة المظالم التي نشهدها أو نسمع عنها بشكلٍ متكرّر، قد يغدو لنا أمرًا طبيعيًّا ربّما أن نسمع أو نقرأ أو حتى نقول: "الله ينتقم منه / منها"! "الله ينتقم من التي / الذي كان السبب"! لا بل أمام قتلٍ أو موتٍ مرعبٍ لأحدهم أو لمجموعةٍ من "الأعداء" قد يبدو لنا أمرًا طبيعيًّا أيضًا أن نسمع أو نقرأ أو نردّد بغضبٍ داخليّ مرير كلماتٍ كهذه: "إلى جهنّم وبئس المصير"!
ولكن هل هو أمرٌ مسيحيّ أن "نتشفّى" ممّن أساء إلينا أو إلى غيرنا ونداعب مشاعر الارتياح والسّرور حينما يحدث له مكروه؟! هل نكون مسيحيّين حقـًا حينما نتمنّى أن يُصيب المذنب أضعاف أضعاف ما سبّبه لنا من السّوء، أو ندعو الله ليسمعنا وينتقم لقضيّتنا "العادلة"!؟ لا أدري ما يكون جواب كلّ منّا، ولكن ما نسمعه في نبوءة (أشعيا 35 / 4): "هوذا إلهكم النَّقمَة آتِيَة" قد يعزّز مواقف كهذه ويبرّر ضمائرنا حينما يغلي فينا الغضب ونشعر بالدّم يقفز حارًّا إلى رؤوسنا وقد اجتاحتنا أفكار الانتقام والتّشفي ممّن أساء إلينا أو أحيانًا لغيرنا أيضًا!
ولكن هل يا ترى يعني النبيّ ما عنيناه نحن بكلمة "النقمة"؟! ألا تثير فينا بالأحرى مشاعر متناقضة، صورةٌ لإلهٍ جبّار يقتصّ منتقمًا منّ الأشرار والظالمين؟! فهي من جهّةٍ تناسبنا على العموم، إذ تعكس لنا إلهًا حيًّا متفاعلاً يشعر بنا ويتألّم لألمنا ولا يقف مكتوف الأيدي أمام من يسيء إلينا بل يأتي على عجلٍ "ونقمته" معه "ودخان الغضب يخرج من منخريه ورأسه "ليثأر لنا ويأخذ حقّنا رادًّا على الأشرار الصّاعَ صاعيَن!
بيد أنّها من جهّة أخرى تثير فينا الخوف والرّعدة من إلهٍ كهذا، في حال كنّا نحن طبعًا المذنبين ونستحقّ العقاب العادل جزاء أعمالنا الشرّيرة وإساءاتنا له أو للآخرين! بيد أنّه وفي كافة الأحوال، ألا تتناقض صورةٌ كهذه بشكلٍ فاضحٍ مع الإله الغفور الرّحيم الذي "لا يحابي الوجوه" (رسالة القدّيس يعقوب2/ 1- 5) والذي أظهره لنا يسوع بأعماله وأقواله بأنّه "يشرق شمسه على الأبرار والأشرار ويمطر على الصّالحين والطالحين" على حدّ ٍ سواء؟! ألا تتناقض خصوصًا مع "الإله الحقيقيّ" الذي كشفه لنا يسوع بموته على الصّليب وغفرانه لقاتليه؟! بالطبع نعم لو اعتقدنا أنّ النبيّ قصد ما نقصده نحن اليوم بكلمة "النقمة"!
بيد أنّه لو عدنا إلى (أشعيا 35/ 4- 7) وتأمّلنا به فإنّنا ندرك قصد النبيّ، فكلماته موجّهة للمنفيّين في بابل الذين احتُلَّت أراضيهم وشُرِّدوا من بيوتهم وغدت قلوبهم فزعةً يشلّها اليأس ويخيّم عليها ظلّ الموت، كونهم غدوا سبايا وأسرى ملك بابل لزمنٍ طويلٍ نوعًا ما (40 -50 سنة)؛ في هذا الإطار التاريخيّ المُثخن بالجراح، يَفتح النبيّ أذهان القارئين ومسامعهم على رجاء الخلاص الآتي: "هوذا إلهكم يأتي ويخلّصكم"! فنقمته ليست ضدّ الإنسان بل ضدّ الشرّ والاستعباد والظلم والانغلاق النرجسيّ على الذات، وها هو لم يعد يطيق صبرًا بل يأتي ليحوّل سراب القفر واليأس إلى ينابيع ماء ورجاء محيّ، هوذا يتدخّل شخصيًّا "فتتَفتّح عيونُ العُمي وآذانُ الصُّمِّ ويَطفُرُ الأَعرَجُ كالأَيِّل وَيَتَرَنَّم لِسانُ الأَبكَم"! إنّه ربّ المستحيل، فحيث الانطواء اليائس على الذات، حين يفقد الإنسان كلّ تواصلٍ ومبادرة مع الخارج ويغدو أعمى أصمّ أبكم أشلّ عن كلّ ما عداه، يأتي الله ليهب حياةً جديدة محييةً مشرقةً ومزهرة!
هذا ما يبشّرنا به (إنجيل مرقس 7/ 31- 37)، فيسوع هو الإله العابر المتعاطف الذي أتى من عند الآب وتجاوز جميع الحدود التي كانت تفصل الأرض عن السّماء والإنسان عن الإنسان، فمرّ بين اليهود والوثنيّين وهو ما يؤلّف عالم الأمس، وفتح آفاق التواصل والشّراكة بين الله والبشر وبين البشر فيما بينهم. فبفتحه آذان الأصمّ وحلّه بكم لسانه فتح يسوع هذا الإنسان نفسه على انفتاحه الشخصيّ بالرّوح لحياة المشاركة الرائعة مع الله أبيه ومع البشر إخوته.
وهذه الحياة في الواقع ما هي سوى انفتاح حياة الله الثالوثيّة المحبّة التي جرت ولا تزال تجري باستمرار كالينابيع الغزيرة من قلب يسوع المسيح، الإنسان المتّحد بكلّ إنسانٍ في معاناته العميقة وتنهّده الموجع على صليب الواقع المزري الأليم على العموم!
ربّي، غالبًا ما ننطوي على أنفسنا وعلى أنانيّتنا النرجسية ولا نعود نُصغي بمحبّة لِمَن حولنا!
ربّي، غالبًا ما نشعر، برغم وسائل التواصل الاجتماعيّة الكثيرة اليوم، بأنّنا بتنا منفصلين عن بعضنا البعض، وحتى عن ذواتنا الحقيقيّة! بل غالبًا، ربّي، ما يتملّكنا شعور الغضب والانتقام فنهمّش الآخر ونودّ لو نلغيه من سفر الحياة وننفيه من علاقاتنا اليوميّة!
ربّي، نحن بأمسّ الحاجة إليك اليوم، فتعال مرّ بنا واعبر في شوارعنا وبيوتنا وجماعاتنا وعلاقاتنا، تعال وافتح قلوبنا وكياننا على قلبك المفتوح وحبّك الثالوثيّ! فاليوم أسجد لك وقد تحنّنت على ذاك الإنسان المنطوي على ذاته، فانفردت به وجهًا لوجهٍ في لقاء شخصيّ حقيقيّ، وحوّلته إلى إنسان مشاركٍ منفتحٍ على الحياة والحبّ!
فتعالَ الآن أيضًا يا سيّدي، اجتذبني من شتاتي البابليّ وانفرد بي عن كلّ ما يستعبدني ويقتل فيّ الحياة الحقيقيّة والتواصل العميق. لا تتوانَ يا إلهي الإنسانيّ من أن تضع إصبعيك في أذنيّ اللتين لم تعودا تسمعان إلا ما يروق لهما، ولا تبطئ عن أن تلمس بِريقِك المحيّي لساني الذي تعوّد على الكلام البطّال العقيم، فأعيش بانفتاح متواصلٍ على روحك وأشهد بحضوري وعملي المحبّ المتعاطف خصوصًا للمنغلقين على ذواتهم وجراحهم ومآسيهم، أنّك أنت حقـًا ربّ الرّجاء والمستحيل!
الأب غسّان السّهوي اليسوعيّ.