آخر كلمات يسوع على الصليب (4) «متفرقات
الكلمة الرابعة التي صرخها يسوع والتي أثارت شكوك الكثيرين وكانت سبب عثرة لهم، هي موجهّة للآب:
"إلهي، إلهي، لماذا تركتني" (متى46:27)، (مرقس34:15).
هذه العبارة لا تعني أنّ لاهوت المسيح قد ترك ناسوته، ولا أنّ الآب قد ترك الإبن. أي لا تعني الإنفصال، وإنّما تعني أنّ الآب تركه للعذاب والألم، والإبن قَبِلَ هذا الترك وتَعذبَ به وهو من أجل هذا جاء. كان تركاً باتفاق. لم يكن تركاً أقنومياً بل تركاً تدبيريًّا. كان ممكناً للإبن ألاّ يشعر بألم، بقوة اللاهوت، ولو حدث ذلك لكانت عمليّة الصّلب صُوَريّة ولم تتمّ الآلام فعليّاً ولم يتمّ الفداء.
إنّ عبارة "تركتني" تعني أنّ آلام الصّلب كانت آلاماً حقيقيّة.
كثير من المفسّرين يرون أنّ الرّبّ بقوله "إلهي إلهي لماذا تركتني" إنّما كان يذكّر اليهود بالمزمور الثاني والعشرين الذي يبدأ بهذه العبارة. إذاً هو يذكّرهم باسم المزمور لأنّهم لا يعرفون المزامير بأرقامها الحاليّة وإنّما يسمّون المزمور بأوّل عبارة فيه (كما يفعل بعض الرّهبان في أيّامنا).
يسوع كان مثل كلّ يهوديّ يتلو المزامير في صلاته اليوميّة، وقد أنشد على الصّليب هذا المزمور قبل أن يموت. وإذا دقّقنا في هذا المزمور فإنّنا سوف نلاحظ إلى أي مدى يتناسب هذا النصّ مع التعليق على الصّليب في الجلجلة: "أمّا أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر ومحتقر من الشّعب" (مز7:22)، "كلّ الذين يرونني يستهزئون بي.. ويقولون: إتّكل على الرّبّ فلينجِّه ولينقذه لأنه سَرّ به" (مز8:22)، وهذا ما كان يحدث مع المسيح على الصّليب حيث كان الناس يقولون: "خلّص آخرين وأمّا نفسه فلا يقدر أن يُخلّصها.. قد اتّكل إلى الله فلينقذه الآن إن كان راضيًّا عنه" (متى39:27-44).
وأيضاً "ثقبوا يديّ ورجليّ، إلى تراب الموت وضعوني" (مز16:22) حيث تذكّرنا بما حدث قبل إرتفاع الصّليب: يسوع على الأرض واليهود يسمّرونه بعنف على الخشبة. "يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز18:22) متى ومرقس يذكران حادثة الجند الذين لا يريدون تمزيق لباس المسيح الذي بدون خياطة، بينما يؤكّد يوحنّا أنّ هذا كان يجب أن يحصل لكي تتمّ الكتب.
من الواضح أنّ داود النبيّ قال هذا المزمور، لم يثقب أحد يديه أو قدميه، ولم يقسم أحد ثيابه ولم يقترعوا على قميصه بروح النبوّة على المسيح.
كلّ نصّ المزمور بدأ يتحقّق لذلك قال يسوع :"قد تمّ"، وبما أنّه عاش على الصّليب كلّ ما سبق لكاتب المزامير أن وصفه، فهو بالتالي عاش أيضاً ما تنطوي عليه الآية الأولى من المزمور: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" لقد شعر فعلاً بتخلي الله عنه، هنا تكمن ذروة التخلّي، هنا يكمن بالضبط سرّ خلاصنا.
لأنّه لو كان يسوع مجرّد إنسان لما أفادنا موته على الصّليب بأكثر مما أفادنا به موت كثيرين من الأنبياء أو الأبطال الذين ماتوا فداء عن البشريّة. هذا يعني أن مهمّته تقتضي منه بعد أن أتى من "جوف الآب" أن يحمل الله إلى الناس. لو مات يسوع ولم يقم من بين الأموات لكانت كرازته باطلة (كما يقول القدّيس بولس).
لكن لماذا قال المسيح "إلهي إلهي"؟؟ لقد قالها بصفته نائباً عن الإنسانيّة، يتكلّم الآن كإبن للإنسان، أخذ طبيعة الإنسان وأخذ موضعه ووقف نائباً عن الإنسان وبديلاً عنه أمام الله، وُضعت عليه كلّ خطايا البشر، وهو الآن يدفع ديونهم. هنا نرى البشريّة كلّها تتكلّم على فمه فهي بعد الخطيئة والإنفصال عن الله تصرخ على فمه "إلهي إلهي لماذا تركتني؟".
أي أن هذه العبارة لم تكن نوعاً من الإحتجاج أو الشكوى إنّما كانت مجرّد تسجيل لآلامه وإثبات حقيقتها وإعلاناً بأنّ عمل الفداء سائرٌ في طريق التمام.
بعد صراخ يسوع للآب ساد صمتٌ عظيم... وإلى صباحِ يومٍ ثانٍ
إذاعة الفاتيكان - 2010.