نصوم...كيف ولماذا؟ «القوت اليومي
إننا لسنا من النوع الذي يصوم، وفي أثناء الصوم يشتهي متى يأتي وقت الإفطار. إنما نحن حينما نكون مفطرين، نشتهي الوقت الذي يعود فيه الصوم من جديد. الإنسان الرّوحي يفرح بفترات الصوم، أكثر ممّا يفرح بالأعياد التي يأكل فيها ويشرب.
ينبغي أن تكون فترة الإنقطاع فترة زهد ونسك.
فلا تهتم فيها بما للجسد. أي لا تكون منقطعًا عن الطعام، وتظل تفكر متى تأكل.. إنما ينبغي أن تكون فترة الإنقطاع فترة زاهدة ناسكة، ترتفع فيها تمامًا عن مستوى الكل وعن مستوى المادة وعن مستوى الطعام.
وبعد فترة الإنقطاع لا تأكل بشهوة.
فالذي ينقطع عن الطعام، ثم يأكل بعد ذلك ما يشتهيه، أو يتخيّر أصنافًا معيّنة تلذّ له، هذا لا يكون قد أخضع جسده أو أمات شهواته. وإذ يأكل بشهوة، أو إذ يأكل ما يشتهي، يدل على أنه لم يستفد روحيًا من فترة الإنقطاع، ولم يتعلم منها الزهد والنسك..! أنظر ما قاله دانيال النبي عن صومه " لم آكل طعامًا شهيًا "(دا 10:3). وهكذا يكون يهدم ما يبنيه، بلا فائدة..! وليس الصوم هو أن نبني ونهدم ثم نبني ثم نهدم، بغير قيام..!
ولا تترقب نهاية فترة الإنقطاع، لتأكل.
إن جاء موعد الأكل، فلا تسرع إليه. وحبّذا لو قاوَمتَ نفسك، ولو لدقائق قليلة وانتظرت. أو إن حل موعد تناولك للطعام، قل لنفسك: لنصلِّ بعض الوقت ثم نأكل، أو نقرأ الكتاب ونتأمل بعض الوقت ثم نأكل، ولا تتهافت على الطعام.. ألزهد الذي كان لك أثناء فترة الإنقطاع، فليستمر معك بعدها. فهذه هي الفائدة الروحية التي تنالها.
فما هي الفضائل الروحية التي يحملها الجوع؟
الذي يمارس الجوع، يشعر بضعفه عن الغرور والشعور بالقوة والثقة بذلّ الجسد، فتُذلُّ النفس، وتشعر بحاجتها إلى قوة تُسنِدها، فتلجأ إلى الله بالصلاة وتقول له: أسند يا رب ضعفي بقوتك الإلهية، فأنا بذاتي لا أستطيع شيئا.
صلاة الإنسان وهو جائع، صلاة أكثر عمقًا.
إن الجسد الممتلئ بالطعام، لا تخرج منه صلوات ممتلئة بالروح. ولذلك دائمًا تمتزج الصلاة بالصوم، ويمتزج الصوم بالصلاة.
لا تهرب من الشعور بالجوع، عن طريق الإنشغال ببعض الأحاديث، أو ببعض المسلّيات، أو عن طريق النوم، لكي تمضيَ فترة الجوع دون أن تشعر بها.. فإنك بالهروب من الجوع، إنما تهرب من بركاته ومن فوائده الروحية، وتهرب من التدريب على فضيلة الإحتمال وفضيلة قهر الجسد.. إننا نريد أن نستفيد من الجوع، وليس أن نهرب منه.
إن ضَغَط عليك الجوع، قل إنك لا تستحقّ الأكل.
ألصوم ليس مجرّد فضيلة للجسد بعيدًا عن الروح.
إنما الصوم هو تسامي الجسد ليصل إلى المستوى الذي يتعاون فيه مع الروح.
ونحن في الصوم لا نقصد أن نعذّب الجسد، إنما نقصد ألاّ نسلك حسب الجسد، فيكون الصائم إنسانًا روحيًا وليس إنسانًا جسدانيًا.
ألصوم فترة تُرفع فيها الروح، وتجذُب الجسد معها.
الصوم هو فترة روحية، يقضيها الجسد والروح معًا في عمل روحي. يشترك الجسد مع الروح في عمل واحد هو عمل الروح.
نصلي ليس فقط بجسد صائم، إنما أيضا بنفس صائمة.
بفكر صائم وقلب صائم عن الشهوات والرغبات، وبروح صائمة عن محبة العالم، فهي ميتة عنه، وكلها حياة مع الله، تتغذى به وبمحبته.
وحينما ذكر عبارة " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (مت 4: 4). إنما أراد بهذا أنه ينبغي للإنسان ألّا يحيا جسدانيًا يعتمد على الخبز كطعام له، ناسيًا الروح وطعامها. وعن طعام الروح هذا، قال لتلاميذه " لي طعام لآكل لستم تعرفونه" (يو 4: 32). وهنا يخطر على فكرنا سؤال هو: هل كان المسيح على الجبل صائمًا أو يتغذى.
فهل أنت تهتم بما للروح أم بما للجسد؟
وإن كان الصوم ليس هو مجرد جوع للجسد، إنما هو بالأحرى غذاء للروح. فلنبحث عن أغذية الروح فما هي؟ وهل تنالها بالصوم أم لا؟
لماذا نصوم؟ ما هوهدفنا من الصوم؟
طبعًا طاعة الكنيسة أمر لازم، وطاعة الوصية أمر لازم. ولكننا حينما نطيع الوصية، ينبغي أن نطيعها في روحانية وليس في سطحية.. وإن كانت الكنيسة قد رتّبت لنا هذا الصوم، فقد رتّبته من أجل العمق الروحي الذي فيه. فما هو هذا العمق الروحي؟؟ وما هدفنا من الصوم؟
في الواقع أن حرمان الجسد ليس فضيلة في ذاته، إنما هو مجرّد وسيلة لفضيلة وهي أن تأخذ الروح مجالها.
فقد يصوم البعض لمجرد أن يرضى عن نفسه.
لكي يشعر أنه إنسان بار، يسلك في الوسائط الروحية، ولا يُقصّر في أيّةِ وصية… أو قد يصوم لكي ينال مديحًا من الناس في صومه، أو في درجة صومه.. وهكذا يدخل في مجال المجد الباطل، أي يدخل في خطيئة! ما هو إذن الهدف السليم من الصوم؟
الهدف السليم أننا نصوم من أجل محبتنا لله.
من أجل محبتنا، نريد أن تكون أرواحنا ملتصقة بالله. ولا نشاء أن تكون أجسادنا عائقًا في طريق الروح. لذلك نُخضِعها بالصوم لكي تتماشى مع الروح في عملها. وهكذا نَوَدُ في الصوم، أن نرتفع عن المستوى المادي وعن المستوى الجسداني، لكي نحيا في الروح، ولكي تكون هناك فرصة لأرواحنا البشرية أن تشترك في العمل مع روح الله، وإنها بمحبة الله وبعشرته تتمتع
فنحن نصوم لأنّ الصوم يُقرّبنا إلى الله.
الصوم فيه اعتكاف، والإعتكاف فرصة للصلاة والقراءة الروحية والتأمل.
والصوم فيه ضبط للإرادة وانتصار على الرّغبات. وهذا يساعد على التوبة التي هي الطريق إلى الله وإلى التصالح معه. ونحن نصوم وفي صومنا نتغذى من كل كلمة تخرج من فم الله (مت 4). إذن من أجل محبة الله وعشرته، نحن نصوم. نصوم، لأن الصوم يساعد على الزهد في العالمّيات والموت عن المادّيّات. وهذا يُقوينا على الإستعداد الأبديّ والإلتصاق بالله.
البابا شنودة الثالث