مِنَ المادَّةِ إلى الرُّوح «القوت اليومي
سَمَّى رَبُّنا تلاميذَهُ "طوباوِيِّين"، قال : طوبى لأعْيُنِكُمْ لأنَّها تُبِصِر، وآذانِكُم لأنَّها تَسْمَع ! (متى 13/ 16).
إسْتَحَقُّوا التَّطويبَ لأنَّهُمْ عايَنوا يَسوعَ وآلامَهُ وَعَجائِبَهُ، وأصْغَوا إلى كَلِماتِهِ ! نَحْنُ نَشْتَهي أنْ نُعايِنَ وَنَسْمَع، ولكنَّ هَؤلاءِ رأوهُ وَسَمِعوهُ وَجْهاً لِوَجْه، لأنَّهُ كانَ حاضِراً مَعَهُم بالجَسَد. وَهُوَ الآنَ غَيْرُ حاضِرٍ مَعَنا بالجَسَد، فإنَّا نَسْمَعُ كلِماتِهِ مِنَ الكُتُبِ المُقدَّسة، وَنَتَقدَّسُ بالسَّمْع، فَنُطَوِّبُ الكُتُبَ التي تُخْبِرُنا بِها، وهكذا نَتَصَوَّرُ المَشاهِدَ التي يَصِفُها الكِتاب، وَنَتَفرَّسُ بِعَينِ الفِكْرِ في طَلْعَتِهِ الجَسَدِيَّة، وفي عَجائِبِهِ وآلامِهِ، فَنَتَقدَّسُ وَنَرْتَوي وَنُسَرُّ وَنَسْعَد. وَبالوَقارِ نَعْبُدُ طَلْعَتَهُ الجَسَدِيَّة، التي تَجولُ في فِكْرِنا يَتَخَطّى بِنا إلى بَعْضِ التَّصَوُّرِ لِجَلالِ لاهوتِهِ.
فكما أنَّنا مِنْ جَسَدٍ وَنَفْس، وَنَفْسُنا لا تَسْتَطيعُ الآنَ أنْ تَقِفَ إلّا بِمُؤازَرَةِ الجَسدِ الذي تَحْتَجِبُ فيه، كذلكَ يَستَحيلُ علينا أنْ نُدْرِكَ الأمورَ الرُّوحِيَّةَ إلّا بالوَسائِلِ المادِيَّة. وكما هِيَ الحالُ في حاسَّةِ السَّمْعِ تُدْرِكُ بِسماعِ كَلِماتٍ مَحْسوسَةٍ أموراً روحانِيَّةً لا تُحَسّ، عارِيَةً مِنْ كُلِّ مادَّةٍ على الإطلاق، كذلكَ بِرُؤيَةِ المَشاهِدِ الحِسِّيَّةِ أو تَصَوُّرِها، نُدْرِكُ الأمورَ الرُّوحانيَّة.
إذنْ، فالغَوصُ الفِكْرِيُّ يَرْفَعُ القلْبَ بالصَّلاةِ إلى مَدَارِكِ الرُّوح. وَعليهِ أخَذَ المَسيحُ طَبيعَةً مِنْ نَفْسٍ وَجَسَد، مِثْلَ الإنْسان، لِيُظْهِرَ للإنْسانِ قُوَّةَ اللّاهوتِ بالمَلْموسات. كذلِكَ المَعْمودِيَّةُ بالماءِ والرُّوح، والتَّناوُلُ، وأسْرارُ الكَنيسَةِ والصَّلاةُ والتَّسبيحُ والنُّورُ والبَخور، كُلُّها وَسائِلُ اتِّحادٍ بينَ المادَّةِ والرُّوح.
القِدِّيسِ يوحَنّا الدِمَشْقي (+749)