غُرْبَةُ الحَياة «القوت اليومي






غَريبٌ أنْتَ في هذهِ الحَياة : أنتَ حَقًّا مَسيحيٌّ إنْ عَرَفْتَ أنَّكَ غَريبٌ في بَيْتِكَ وَوَطَنِكَ، لأنَّ وَطَنَكَ فوق، وَلَسْتَ فيهِ ضَيْفًا عابِرًا ؛ أمَّا هُنا في بَيْتِكَ هذا، فأنْتَ ضَيْفٌ وَإلّا لَما غادَرْتَهُ.


  إنْ وَجَبَ عَليْكَ الخُروجُ مِنْهُ فأنْتَ فيهِ ضَيْف، لا تَغْتَرّ، أنْتَ ضَيْف، شِئْتَ أمْ أبَيْت. دَعْ بَيْتَكَ لِأولادِكَ يا ضَيْفًا عابِرًا، دَعْهُ لِسِواك. دَعْهُ لِلّذينَ سَوْفَ يَعْبُرونَ مِثْلَك.


  إنْ كُنْتَ في فُنْدُق، ألا تَتْرُكُ مَحَلَّكَ لِضَيْفٍ جَديد ؟ وَفي بَيْتِكَ تَصْنَعُ الشَيْء نَفْسَه. أبوكَ تَرَكَ لكَ المَكان، فعليْكَ أنْ تَتْرُكَهُ لِأولادِك.


أنتَ لا تُقيمُ فيهِ كَمَنَ سَوْفَ يَبْقى، وَلنْ تَتْرُكَ مَكانَكَ لِمَن سَوْفَ يَبْقون. لِمَ تَشْتَغِل ؟ وَلِمَنْ تَشْتَغِل ؟  تقول : لأولادي. وَهذا لِمَنْ يَشْتَغِل ؟ لأولادِهِ. وَهَؤلاءِ لِمَنْ يَشْتَغِلون ؟ لأولادِهِم. إذًا، لا أحَدَ يَشْتَغِلُ لِنَفْسِه. إجْعَلْ مِنْ ثَرْوَتِكَ عَونًا لكَ في السَّفَر، لِئلّا تَكونُ حافِزًا لِجَشَعِكَ.


خُذْ مِنْها الضَّروريَّ ولا تَبْحَثْ فيها عَنْ لَذَّتِكَ. التَّمَتُّعُ بِشَيءٍ هُوَ تَعَلُّقٌ بِهِ مِنْ أجْلِ ذاتِه، أمَّا اسْتِخْدامُهُ فهُوَ اسْتِعْمالُهُ أداةً لِلوصولِ بِواسِطَتِهِ إلى مَنْ نُحِبّ، إنْ كانَ أهْلاً لِلمَحَبَّة. الاسْتِعْمالُ غَيْرُ اللائِقِ لِشَيءٍ يُدْعى سُوْءَ اسْتِعْمالٍ أو سُوْءَ تَصَرُّف.


 أنْشِدِ الآنَ لكيْ تتعَزّى في التَّعَب، لا لِتَتَمَتَّعَ بِجَمالِ الرَّاحَة ؛ أنْشِدْ كما تَعَوَّدَ المُسافِرون أنْ يُنْشِدوا ؛ أنْشِدْ وَسِرْ وَخَفِّفْ بِتَرانيمِكَ مِنْ تَعَبِكَ ؛ ولا تَسْتَسْلِم إلى الكَسَل ؛ أنْشِدْ وَتَقدَّم، تَقدَّمْ في الخَيْر، إنْ تَقَدَّمْتَ سِرْتَ ؛ تَقَدَّمْ في الإيمانِ والأخْلاقِ الصالِحَة. لا تَضَلَّ ولا تَتَراجَعْ ولا تَتَوَقَّفْ.

(خواطر فيلسوف، 9)  


القِدِّيسِ أغُوسْطينوس (+430)