الإيمان هبة الله «القوت اليومي
" يجب على الثقة بعمل الروح القدس أن تدفعنا دائمًا لنذهب ونبشر بالإنجيل، لنعطي الشهادة الشجاعة للإيمان؛ ولكن لا نتحدث عن احتمال جواب إيجابي لعطية الإيمان فحسب إنما هناك خطر رفض الإنجيل، وعدم قبول اللقاء الحي مع المسيح.
القديس أغسطينوس طرح في زمانه هذه المشكلة في تعليقه على مثل الزارع: "نحن نتكلم، أي نلقي البذر، ننثر البذار. هناك من يحتقر، من يوبخ، من يضحك. إذا خفنا أولئك، فليس لدينا شيئًا نزرعه وفي يوم الحصاد لن نحصل على ثمر. الثمر الجيد يأتي من الأرض الطيبة" (PL 40, 677-678). وعليه لا يجب على الرفض أن يضعضعنا.
كمسيحيين نحن شهود لهذه الأرض الخصبة: إيماننا، حتى ولو مع محدوديتنا، يبين أن هناك أرض طيبة، حيث تأتي كلمة الله بثمار جمة من البر، السلام، المحبة، البشرية الصالحة والخلاص. وكلّ تاريخ الكنيسة، مع كل مشاكله، يبيّن أن هناك أرض طيبة، وأن هناك بذار طيب يحمل الثمر.
ولكن فلنتساءل: من أين ينال الإنسان انفتاح القلب والعقل ليؤمن بالله الذي صار مرئيًا في يسوع المسيح المائت والقائم، لكي يقبل خلاصه، فيضحي الرب مع إنجيله هديًا ونورًا للوجود؟
الجواب: يمكننا أن نؤمن بالله لأنه يقترب منا ويلمسنا، لأن الروح القدس، هبة القائم من الموت، يجعلنا قادرين أن نقبل الله الحي. الإيمان هو إذًا هبة فائقة الطبيعة، هبة الله.
المجمع الفاتيكاني الثاني يقول: " إنَّما لكي يؤمنَ هكذا، فهو بحاجةٍ إلى نِعمةِ الله السابقةِ والمُسانِدة، وإلى معرفة الروح القدس الداخليّة، الذي يُحرِّكُ القلبَ ويردُّه إلى الله، ويفتحُ بصيرةَ العقلِ ويُعطي الجميعَ العذوبةَ في قبولِ الحقيقةِ والإيمان بها" (دستور "كلمة الله"، 5).
ركيزة مسيرة إيماننا هو العماد، السر الذي يهبنا الروح القدس، ويجعلنا أبناء الله في المسيح، ويرسم ولوجنا في جماعة الإيمان، في الكنيسة: لا نؤمن من تلقاء ذاتنا، دون الحصول على نعمة الروح؛ ولا نؤمن لوحدنا، بل مع الإخوة. من المعمودية فصاعدًا كل مسيحي هو مدعو لكي يعيش من جديد ويعتمد اعتراف الإيمان مع الإخوة.
الإيمان هو هبة من الله، ولكنه أيضًا فعل بشري وحر بشكل عميق وجذري. تعليم الكنيسة الكاثوليكية يقول بوضوح: "من المستحيل أن نؤمن من دون النعمة وعون الروح القدس الداخلي. ولكن من الحقيقة بمكان أن الإيمان هو فعل بشري حق. هو لا يناقض الحرية ولا العقل البشري" (العدد 154). لا بل يتطلب الإيمان هذه القوى ويرفعها في تحدٍ حيوي يشبه الخروج، أي الخروج من الذات، من الضمانات، من المخططات الفكرية، للثقة بعمل الله الذي يهدينا إلى طريقه لكي نصل إلى الحرية الحقة، إلى هويتنا البشرية، إلى فرح القلب الحق، إلى السلام مع الجميع.
الإيمان هو تسليم كل حريتنا وفرحنا لمشروع الله بشأن التاريخ، تمامًا كما فعل ابراهيم، كما فعلت مريم الناصرية. الإيمان هو قبول يقول فيه الفكر والقلب "نعم" لله، ويعترفان بيسوع ربًا. وهذا "النعم" يحول الحياة، يفتح لها الطريق نحو ملء المعنى، يجعلها جديدة، غنية بالفرح والرجاء المتين.
أيها الأصدقاء الأعزاء، يتطلب زماننا مسيحيين يكونون متعلقين بالمسيح، لينموا بالإيمان بفضل الحميمية مع الكتاب المقدس والأسرار. أشخاصًا يكونون مثل كتاب مفتوح يسرد خبرة الحياة الجديدة بالروح، حضور الله الذي يسندنا في المسير ويفتح لنا الحياة التي لا تنتهي."
البابا بنديكتس السادس عشر