إتّحادٌ عَجيب، تبادُلٌ مُتناقِض بين اللهِ والإنسان «القوت اليومي
خلقَ اللهُ الإنسان. سلخَ اللهُ جَسَدَ الإنسانِ مَن المادَّةِ التي هُوَ خلقها، ثمَّ أحياهُ بِروحِهِ الخاصّ، وهذا الرُّوحُ سَمَّاهُ الكِتابُ النّفسَ المُفكّرَة، وصُورَة الله... وَضَعَ اللهُ الإنسانَ على الأرض، لِيَسهَرَ على الخليقةِ المَنظورَة، ويَطـّلِعَ على الأسرارِ الإلهيّة، ويتسلّطَ على الأشياءِ الأرضيَّة، ويَخضَعَ لِلمَلكوتِ السَّماويّ...
ولكِنَّ الإنسان رَفضَ الطاعَة وأصبَحَ مُذ َّاكَ مَفصولاً بِسَبَبِ خَطيئتِهِ عَنْ شَجَرَةِ الحياةِ وعنِ الفِردَوسِ وعنِ اللهِ. تَتَطلّبُ حالتُهُ مَعونة ً قويَّة ً جِدّاً، وهذا ما أعْطِيَ لهُ.
كلِمَة ُ اللهِ نفسُهُ، أقدَمُ مِنْ كُلِّ الأجيال، غيرُ المَنظور، غيرُ المُدرَك، غيرُ الجَسَدِيّ، المُبْدِئُ المَولودُ مِن المُبدِئ، النّورُ المَولودُ مِن النّور، يَنبوعُ الحياةِ والخُلودِ ورَسمُ الآبِ الإلهيّ، الخَتمُ الثابِتُ والصّورَةُ الكامِلة، كلمَة ُ الآبِ القاطِعَة ُ يتّجِهُ إلى صورَتِهِ الذاتيَّة، لبِسَ الجَسَدَ ليُخلّصَ الجَسَد، ضَمَّ إليهِ نفساً مُفكّرَة ً لأجلِ نفسي، ليُطهِّرَ المُشَبَّهَ بالمُشَبَّهِ بِهِ، ويأخُذ َ على عاتِقِهِ كُلَّ ما هُوَ بشَريّ، ما عدا الخطيئة.
حُمِلَ بِهِ في حشا العذراءِ التي تَطهَّرَتْ بالرّوحِ جَسَداً وروحاً: إنَّ اللهَ حَقّاً هو الذي يأخُذ ُ على عاتِقِهِ الإنسان، حتّى إنّهُ ليُؤلـِّفُ كائِناً واحِداً مُتّحِداً مِن هذين المُتناقِضَين، الجَسدِ والرُّوح، الواحدُ مِنْهُ إلهيّ، والآخَرُ مُتألـِّه.
إتّحادٌ عجيبٌ وتبادُلٌ مُتناقِض: الكائِنُ يُحْدَث، غيرُ المَخلوقِ يَقبَلُ أنْ يولد، الذي لا يُحتَوى يُحتَوى في حشا نفسٍ مُفكّرَة، واسِطةِ العِقدِ بين الألوهَةِ وكثافةِ الجَسَد. المُعطي الغِنى يُصبِحُ فقيراً، يَستَعطي جَسَدي لِيُغنيني بألوهَتِه.
الذي هُوَ المِلْءُ نفسُهُ يُفرِغُ ذاتَهُ، قد أفرَغ َ ذاتَهُ مِنْ مَجدِهِ وَقتاً ما، حتّى أشارِكَ أنا في مِلئِهِ. ما هذا الفيضُ مِن الحَنان؟ ما هذا السِّرُّ الذي لي؟ كُنتُ قد نِلتُ الصُّورَةَ ولم أحتَفِظ ْ بِها، وهُوَ، المَسيحُ، يَقبَلُ جَسَدي ليُخلّصَ هذهِ الصُّورَة وَيُعيدَ الخُلودَ إلى الجَسَد. إنَّهُ يَقومُ بِمُشارَكةٍ ثانِيَةٍ أعجَبَ مِن الأولى. فقدْ شارَكَ بِما كان عِندَهُ مِنْ عالٍ، ثمَّ أتى ليأخُذ َ ما هُوَ أدنى. هذه البادِرَةُ الأخيرَةُ أيضاً أكثرُ ألوهَة ً من السَّابِقة، وأكثرُ سُمُوّاً للذين يُدرِكون.
القِدِّيسِ غريغوريوسَ النَّزْيَنزِيّ (+390)