جمعة أسبوع مولد يوحنّا المعمدان «الإنجيل
إنجيل اليوم (متّى 11/ 16-19)
16 وبمن أشبّه هذا الجيل؟ إنّه يشبه صبيانًا جالسين في الساحات يصيحون بأصحابهم
17 قائلين: زمّرنا لكم فلم ترقصوا، وندبنا لكم فلم تنتحبوا.
18 جاء يوحنّا لا يأكل ولا يشرب فقالوا: فيه شيطان!
19 وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فقالوا: هوذا إنسانٌ أكول وشرّيب خمر، صديق العشّارين والخطأة! ولكنّ الحكمة تبرّرها أعمالها!".
أوّلاً قراءتي للنصّ
أُعطيَ لنصّ إنجيل هذا اليوم العنوان التالي "حكم يسوع على أبناء جيله"؛ له نصّ موازٍ في (لو7: 31-35)؛ نلحظ تشابهًا شبه تامّ بين النصيّن، باستثناء الآية الأخيرة، وهذا نصّها في لوقا: "لكنّ الحكمة يبرّرها جميع أبنائها" (7: 35).
الآيتان (16- 17)
يرسم يسوع أمامنا صورة عن جيله، عن "رجال هذا الجيل" (لو7: 31)، عن اليهود معاصريه، الذين كان في احتكاك معهم في حياته الظاهرة، عن أبناء أيّ جيل، عن البشر في كلّ زمان ومكان؛ فيراهم وهم متواجدون معًا في ساحات أو أمكنة هذا العالم، وكأنّهم صبيانًا مقسومين، بالضرورة إلى فئتين، الأولى لها دور المبادرة، والثانية لها دور التلقّي، وغير متّفقين ولا متناغمين، وبالتالي قائلين بعضهم لبعض: "زمّرنا لكم فلم ترقصوا، وندبنا لكم فلم تنتحبوا".
الآيتان (18-19)
وينتقل يسوع إلى تطبيق هذه الصورة على يوحنّا المعمدان، وعليه بالذات؛ لقد قام يوحنّا المعمدان بالمبادرة، فتلقّى أبناء جيله مبادرته، ورفضوها، ولم يتوافقوا معه عليها، مبرّرين موقفهم هذا لكونه جاء "لا يأكل ولا يشرب"، وبالتالي وبنظرهم، لأنّ "فيه شيطانًا".
وقام ابن الإنسان (يسوع) بالمبادرة، فتلقّى أبناء جيله مبادرته، ورفضوها أيضًا، ولم يتوافقوا معه عليه، مبرّرين موقفهم هذا، لكونه جاء "أكول وشريّب خمر، صديق العشّارين والخطأة".
فالانقسام إذن، هو قسمة الناس على هذه الأرض وواقعهم، وعلامة تغييب الله، وسيطرة قوى الشرّ؛ والأخطر في واقع الناس هذا اختيار ذلك بوعي، واعتماده بإرادة، وإقامته على ركائز وطيدة في ظاهرها، متناقضة في ذاتها في نهاية الأمر.
"ولكنّ الحكمة تبرّرها أعمالها" (متى11: 19)؛ "لكنّ الحكمة يبرّرها جميع أبنائها" (لو7: 35)
فلنتساءل عمّا تعنيه كلمة "الحكمة" هنا، في إطار ما ورد أعلاه، في حكم يسوع على أبناء جيله:
الحكمة هي في الله، هي في وعده للإنسان بالخلاص، وهي في كيفيّة تنفيذ الله وعده بالخلاص!
إنها مبرّرة في ذاتها، ومتمظهرة في أعمال الله الذي خلق جميلاً، ووعد إبراهيم والآباء والأنبياء بالخلاص، متحنّنًا على الإنسان الذي أخطأ، وأرسل ابنه الوحيد إلى العالم مخلّصًا، وداعيًا بروحه جميع الناس على قبول هذا الخلاص بالكنيسة وفي الكنيسة التي أسّسها كسفينة في بحر هذا العالم الهائج، لكي تستقبل أبناءها (الذين رأوا أعمال الله، وسمعوا كلامه فقبلوه، وآمنوا به، وعملوا بموجب إيمانهم)، وتحتضنهم وتحميهم، وتقيهم الشرّ حتّى نهاية هذه الأزمنة الخلاصيّة، ومجيء الربّ الثاني بالمجد، ديّانًا وملكًا، لا انقضاء لملكه.
ثانيًا "قراءة رعائيّة"
نقرأ في "قراءة رعائيّة"، الشرح الإجماليّ التالي لنصّ إنجيل هذا اليوم: يدّل "الجيل" إلى الجموع (7)، إلى معاصري يسوع، إلى معاصري متّى؛ رفض هؤلاء أن يؤمنوا بيسوع، فدلّوا على إرادة سيّئة.
نحن أمام مثل أعطاه يسوع (16-17)، ثم طبّقه (18-19)؛ لم يفهم الناس يوحنّا، فكيف سيفهمون يسوع؟
كان على هذا الجيل أن يتوب مع يوحنّا (ندبنا لكم) الذي نادى بالتوبة، وأن يفرح مع يسوع (زمّرنا لكم) الذي دشّن الملكوت، ولكنّه ما تاب وما فرح؛ بدا معاصرو يسوع مثل هؤلاء الصبيان الذين لم يعرفوا أن يستفيدوا ممّا قدّمه الله لهم.
الآيتان (18-19)
جاء يوحنّا في حياة قشفة، فقالوا "فيه شيطان"، ما يعني أنّه ما جاء من عند الله؛ جاء يسوع في حياة عاديّة، يأكل ويشرب، فاعتبروه أكول وشرّيب، أي يحبّ الأكل والشرب، وتذمّروا منه، لأنّه يؤاكل العشّارين والخطأة؛ هكذا جعل الفرّيسيّون وشيوخ الشعب الناس يرفضون كلّ دعوة غير دعوتهم.
"الحكمة تبرّرها أعمالها"
يمكن القول بأنّ لهذه العبارة معنى أوّل، مفاده: هذا الجيل يرضى بحكمته التي علّمته كيف يرفض يوحنّا ويسوع، وبرّرت له موقفه الرافض هذا؛ ولها معنى ثانٍ، مفاده: حكمة يسوع أو حكمة الله (12: 42؛ 1قور1: 24)، أي قصد الله الخلاصيّ الذي اعترف الناس بصدقه على أساس أعمال يوحنّا وأعمال يسوع، رغم معارضة هذا الجيل.
الأب توما مهنّا