الخميس الخامس من زمن العنصرة «الإنجيل
إنجيل اليوم (متّى 10 /27ـ33)
27 قال الرب يسوع: "ما اقوله لكم في الظلمة قولوه في النّور. وما تسمعونه همسًا في الأذن نادوا به على السطوح.
28 لا تخافوا ممّن يقتلون الجسد، ولا يقدرون أن يقتلوا النفس، بل خافوا بالحريّ ممّن يقدر أن يُهلك النفس والجسد معًا في جهنّم.
29 ألا يباع عصفوران بفلس، وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون علم أبيكم؟
30 أمَّا أنتم فشعر رأسكم معدود كلّه.
31 فلا تخافوا! إنّكم أفضل من عصافير كثيرة.
32 كلّ من يعترف بي أمام النّاس، أعترف به أنا أيضًا أمام أبي الّذي في السّماوات.
33 ومن ينكرني أمام النّاس، أنكره أنا أيضًا أمام أبي الّذي في السّماوات".
أولاً قراءتي للنصّ
الآية (27)
لم تتناول أحاديث يسوع مع رسله وتلاميذه، طوال المدّة التي قضوها معًا على هذه الأرض إلاّ ما يختصّ بهويّته، وبعلاقته بالله الآب، وبالمهّمة الخلاصيّة التي أتى لكي يحقّقها؛ وإذ لم يكن بوسع التلاميذ استيعاب هذه المواضيع وإدراكها وفهمها، فقد جاء ما قاله لهم يسوع حولها بطريقة رمزيّة، وبالرجوع إلى كتب العهد القديم، وبخاصّة الأنبياء، وكأنّه يقول "في ظلمة" و"همس في الأذن".
المطلوب من الرُّسل والتلاميذ هو مطلوب منّا أيضًا اليوم، نحن الذين تبلّغنا الرسالة من الرسل أنفسهم، ومن الكنيسة التي أثبتت، بوجودها وبحياتها وبتعاليمها، صحّة شهادتهم وصدقها؛ فلا يجوز أن نتوانى ونتلهّى بما يقدّمه لنا عصرنا من جديد جذّاب، ومن مغرٍ لِحين.
الآيات (28ـ31)
والإعلان عن الرّسالة سيعرّض الرّسل والتلاميذ، كسيّدهم ومعلّمهم، للإضطهاد حتّى الموت؛ إنّه لأمرٌ مخيف للغاية؛ لكن يسوع يدعونا هنا، إلى تمييز "الجسد"، أي البعد الزمنيّ، من "النفس"، أي البعد الأبديّ، في حياة كلّ إنسان، وبخاصة المسيحيّ الذي أخذ الإنسان الجديد بالمعموديّة.
وعلى هذا الأساس، يدعو يسوع الرّسل والمؤمنين به إلى أن "لا تخافوا ممّن (الأشخاص والأحداث) يقتلون الجسد ولا يقدرون أن يقتلوا النفس"؛ يدعوهم إلى أن يتّكلوا، في هذا المجال، على عناية الله السّاهرة، والعالمة بكلّ شيء، وبكلّ ما يحدث، والحريصة على حسن حال كلّ ما يختص حتّى "بالجسد" (فشعر رأسكم معدود كلّه")...
أمّا بالنسبة إلى ما يختصّ بالنفس، فإنّه يدعوهم إلى أن يخافوا ممّن يقدر، إمّا أن يتسبّب لنا بالخطيئة، أي بنكران الله والتعبّد للوثن، وإمّا أن يحكم علينا، وهو الله بالذات، بسبب هذه الخطيئة، بهلاك النفس والجسد معًا في جهنّم؛ فالخوف الذي يدعو يسوع رسله وتلاميذه إلى أن يتحمّلوا به، هو خوف روحيّ مزدوج: خوف من الخطيئة، وما يعود إليها، وخوف من الله الذي يحكم على الخاطئ بجهنّم النار.
الآيتان (32ـ33)
ويختصر يسوع هذه الأفكار في لفظتين متناقضتين ومتقابلتين. إمّا يعترف أيٌّ منّا به أمام الناس، فيعترف هو به أمام أبيه الذي في السماوات؛ إمّا ينكره أيٌّ منّا أمام الناس، فينكره هو، أمام أبيه الذي في السماوات. فخلاصنا الأبديّ الحاصل في ذاته، لا يزال أمام كلّ منّا، ما دمنا في هذه الحياة؛ فإمّا نستحقّ هذا الخلاص بقبولنا للمسيح المخلّص واتّباعنا له، وإمّا نخسر هذا الخلاص برفضنا ليسوع المخلّص واتّباع قوى أخرى، وهي بالنهاية، ليست سوى قوى الشرّ في العالم.
ثانيًا "قراءة رعائيّة"
الآية (28)
إيراد فعل "خاف" مرّتين في هذه الآية يعني أنَّ الخوف كان مسيطرًا على كنيسة متّى، وهي في قلب الضيق والإضطهاد؛ يعني "الجسد" ما به نعبّر عن ذواتنا، وتعني "النفس" مبدأ حياتنا الشخصيّ؛ يستطيع المضطهدون أن يقتلوا الجسد فيحرمون المؤمنين الحياة على هذه الأرض (البُعد الزمنيّ لحياة الإنسان)، ولكنّهم لا يستطيعون أن يحرموهم من الحياة مع الله (البُعد الأبديّ لحياة الإنسان)؛
تمييز "الجسد" من "النفس" هذا، لا يضعنا في إطار الفكر اليونانيّ (الوثنيّ) الذي يقول بأنّ الجسد "وعاء" تأتي إليه النفس، ثمّ تتركه عند الموت؛ بل يضعنا هذا التمييز هنا، كما أشرنا أعلاه، أمام بُعدي الإنسان الذي كلّه جسد، وكلّه نفس، والذي هو وحدة تامّة بنفسه وجسده.
الآية (29)
ترد فيها كلمة فلس، والفلس (أو الدرهم) هو أصغر العملات الرومانيّة (راجع متّى 5/ 26)؛ كما أنّ طائرًا صغيرًا لا يموت بدون علم (إرادة أو سماح) أبيكم، فأنتم بالأحرى، لا تموتون من دون علم أبيكم؛ وكما أنّ الله هو مع العصفور بحضوره و محبّته (وما قيمة العصفور بنظر الناس)، فهكذا يكون معكم في الحياة والممات، بل هو الذي يحمل صليبكم معكم، ويموت فيكم؛ وهذا لا يعني أنّ الله يريد موت المؤمنين به، بل، أن يكون له معنى شبيه بموت يسوع.
الآيتان (32 ـ 33)
"من يعترف بي"، أي من يشهد لي حتّى الدَّم، وهكذا يربط مصيره بمصير المسيح؛ "ومن ينكرني"، أي من قال: أنا لا أعرفه، كما فعل بطرس في بيت عظيم الكهنة (متّى 26/ 34 ، 69ـ75)؛ من ينكر يسوع، فيسوع ينكره (2طيم 2/ 12 )؛ ومع ذلك، كما غفر لبطرس، يغفر أيضًا للأشخاص الذين ينكرونه في الإضطهاد؛ كان جدال، في الكنيسة، حول مصير الذين يجحدون إيمانهم. كيف تستقبلهم الجماعة حين يعودون؟ لا شكّ، بالرَّحمة، لأنّنا كلّنا ضعفاء.
الأب توما مهنّا