الأحد الثاني بعد عيد الصليب «الإنجيل
إنجيل متى (24/ 1 -14)
تدمير الهيكل ونهاية الأزمنة
خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الهَيْكَلِ ومَضَى. فَدَنَا مِنهُ تَلامِيذُهُ يُلْفِتُونَ نَظَرَهُ إِلى أَبْنِيَةِ الهَيْكَل.
فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: «أَلا تَنْظُرونَ هذَا كُلَّهُ؟ أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلى حَجَرٍ إِلاَّ ويُنْقَض».
وفيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلى جَبَلِ الزَّيتُون، دَنَا مِنْهُ التَّلامِيذُ على ٱنْفِرَادٍ قَائِلين: « قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا، ومَا
هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ ونِهَايَةِ العَالَم؟».
فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُم: «إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد!
فكَثِيرُونَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلين: «أَنَا هُوَ المَسِيح! ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين.
وسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وبِأَخْبَارِ حُرُوب، أُنْظُرُوا، لا تَرْتَعِبُوا! فلا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ هذَا. ولكِنْ لَيْسَتِ النِّهَايَةُ
بَعْد!
سَتَقُومُ أُمَّةٌ عَلى أُمَّة، ومَمْلَكَةٌ عَلى مَمْلَكَة، وتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وزَلازِلُ في أَمَاكِنَ شَتَّى،
وهذَا كُلُّه أَوَّلُ المَخَاض.
حِينَئِذٍ يُسْلِمُونَكُم إِلى الضِّيق، ويَقْتُلُونَكُم، ويُبْغِضُكُم جَمِيعُ الأُمَمِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي.
وحِينَئِذٍ يَرْتَدُّ الكَثِيْرُونَ عَنِ الإِيْمَان، ويُسْلِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا، ويُبْغِضُ بَعْضُهُم بَعْضًا.
ويَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين.
ولِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَفْتُرُ مَحَبَّةُ الكَثِيْرين.
ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِّهَايَةِ يَخْلُصْ.
ويُكْرَزُ بِإِنْجيلِ المَلَكُوتِ هذا في المَسْكُونَةِ كُلِّهَا شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَم، وحينَئِذٍ تَأْتِي النِّهَايَة.
تأمّل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع)
خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الـهَيْكَلِ ومَضَى. فَدَنَا مِنهُ تَلامِيذُهُ يُلْفِتُونَ نَظَرَهُ إِلى أَبْنِيَةِ الـهَيْكَل. فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: "أَلا تَنْظُرُونَ هـذَا كُلَّهُ؟ أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلى حَجَرٍ إِلاَّ ويُنْقَض".
لقد كان هذا النّص الإنجيليّ، وعلى مرّ العصور، مدار جدل ونقاش حول معناه ونوعه: هل هو نصّ نبويّ مسيحانيّ، أم هو نصّ رؤيوي مثل سفر رؤيا يوحنّا؟ بمعنى آخر، هل هو استباق لأحداث المستقبل أم أنّه قراءة واقعيّة للأحداث التي كانت تحصل في أيام الإنجيليّ؟ الفرق بين النّص النبويّ والنّص الرؤيوي يكمن في أن النوع الأوّل، أي النبوءة، هي إعلان لإرادة الله في التاريخ، إعلان يتمّ بواسطة نبيّ أو رسول، ويهدف إلى إظهار ما يريده الله في حياة الإنسان كجماعة وكأفراد، ويحتوي على بعد مستقبليّ.
يلتقي الأدب الرؤيوي بالأدب النبويّ من ناحية كونه هو أيضاً إعلاناً لإرادة الله في التاريخ، ولكنّه لا يحمل إبعاداً مستقبليّة، بل هو مجرّد قراءة للحاضر، يضع الكاتب المُلهم أحداثه في إطار رمزيّ صوريّ. فالفرق بين نبوءة أشعيا مثلاً وبين رؤيا دانيال في العهد القديم، هو إن دانيال قد تكلّم عن الأحداث التي كانت تحصل في أيّامه، ووضعها بطريقة صورية رمزية لا يفهمها إلا الجماعة المؤمنة. وقد استعمل يوحنّا الرّسول هذا النوع الأدبيّ في كتابته لسفر الرؤيا، فسمّى روما بابل أو الوحش، والكنيسة سمّاها الإمرأة العذراء، والمسيح ومعه كلّ مؤمن دعاه الطفل...
هذا النوع الأدبيّ الرؤيوي نجده أيضاً في بعض نصوص الأناجيل، ومن ضمنها هذا النّص الّذي نتأمّل فيه اليوم.
لقد كتب متّى إنجيله بعد موت الرّب وقيامته بفترة زمنيّة طويلة نسبيّاً، فالإشارات إلى الاضطهاد للجماعات المسيحيّة من قبل المجامع اليهوديّة تشير إلى نهاية القرن الأوّل، أي بعد الانفصال الرَّسميّ للمسيحيِّين عن اليهود. والإشارة إلى دمار هيكل أورشليم تقودنا إلى ما بعد العام ٧٠، حين دخل الجيش الرومانيّ إلى أورشليم ودمّر الهيكل ونقلوا حجارته كلّها ليأخذوا من بينها ذهب الأواني المقدّسة الّذي سال بسبب النيران بحسب ما يخبر المؤرّخ يوسيفوس.
وفيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلى جَبَلِ الزَّيتُون، دَنَا مِنْهُ التَّلامِيذُ على انْفِرَادٍ قَائِلين: "قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هـذَا، ومَا هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ ونِهَايَةِ العَالَم؟
يُظهر لنا سؤال الرسل نضوجاً لاهوتيّاً لديهم، وهو ما لم يكونوا قد اكتسبوه قبل موت المسيح وقيامته، وقبل حلول الرّوح عليهم. فالرسل لم يكونوا يعلمون شيئاً عن عودة المسيح، وعن علامة لهذا المجيء، فهي كلّها عناصر لاهوتيّة ناضجة ومتطوّرة. لهذا نقول إن هذا السؤال هو سؤال الجماعة الكنسيّة التي كان متّى يكتب إنجيله لها: لقد كان متّى يعلّم جماعته أسرار الإيمان المسيحيّ.
فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُم: "إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد! فكَثِيرُونَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلين: "أَنَا هُوَ الـمَسِيح! ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين"
لقد كتب متّى إنجيله لجماعة مسيحيّة من أصل يهوديّ، رأت مدينتها المقدّسة محتلّة، والشعب مسبيّاً من جديد والهيكل مدمّر كلّه، وكان يحتاج الى أجوبة. لقد تباينت أفكارهم، فقال بعضهم أن هذا الدّمار هو علامة لقرب انتهاء الأزمنة، وآخرون قالوا بوجوب القتال في سبيل تحرير الأرض، فقام العديد من الرجال وأعلنوا أنفسهم مسحاء، أي مرسلين من الله لينقذوا الشعب. إزاء إزدحام هؤلاء المسحاء المزيّفون، بدأت التساؤلات في داخل الكنيسة أيضاً: هل يمكن أن يكون هؤلاء قد أرسلهم الله لخلاص إسرائيل؟
لقد وصلت إلينا أسماء بعض هؤلاء المسحاء الدجّالين: دوسيتيوس السامريّ الّذي يخبرنا عنه أوريجانوس، سمعان السّاحر الّذي اعتبره يهود روما مرسلاً إلهيّاً، يهوّذا الجليليّ (أع ٥، ٣٧)، مناحيم (يخبر عنه يوسيفوس). وفي إيّام فيليكس الوالي، قام العديد من المسحاء، وفي هذه الفترة (٥٢- ٥٨ ب.م.) قام "مسيح" مقاتل من أصل مصريّ (أع ٢١، ٣٨)، جمع حوله ثلاثين ألف محارب وقادهم إلى جبل الزيتون، وأقنعهم أن سوف يشاهدون أسوار المدينة تسقط بأمره. بقيت هذه الظاهرة تتكرّر إلى أن قامت الثورة اليهوديّة، فقرّر الجيش الروماني وضع حدّ لمشاكله مع اليهود باجتياح المدينة، وتدمير الهيكل، وتحويل أورشليم إلى مدينة محظورة على الشعب اليهوديّ الّذي تشتّت.
وسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وبِأَخْبَارِ حُرُوب، أُنْظُرُوا، لا تَرْتَعِبُوا! فلا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ هـذَا. ولـكِنْ لَيْسَتِ النِّهَايَةُ بَعْد! سَتَقُومُ أُمَّةٌ عَلى أُمَّة، ومَمْلَكَةٌ عَلى مَمْلَكَة، وتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وزَلازِلُ في أَمَاكِنَ شَتَّى، وهـذَا كُلُّه أَوَّلُ الـمَخَاض.
إنّ هذه العناصر كلّها، من حروب، ومعارك أمم وممالك، ومجاعات وزلازل، هي عناصر قاستها الأمبراطوريّة الرّومانيّة بأسرها في الفترة التي سبقت كتابة هذا النّص. قام القائد الرومانيّ كلوديوس بحرب ضدّ بريطانيا، ممّا استدعى رفع الضرائب في أنحاء الأمبراطوريّة لدفع نفقات الحرب والجنود، ممّا أنهك المناطق النائية والأكثر فقراً مثل فلسطين. كما أن عدّة عوامل طبيعيّة قد أسهمت في تلف المحاصيل، ممّا سبّب بمجاعات في أنحاء كثيرة من الإمبراطوريّة: هذه الأحوال السيّئة قد دفعت اليهود الى القيام بثلاث ثورات قبل العام ٦٠. وبعد موت الإمبراطور كركلاّ، قام يهود الإسكندريّة وأورشليم بثورة فأعلن كلوديوس الأحكام العرفيّة وسقط الكثير من الثوّار.
وفي الوقت عينه، قامت القبائل الجرمانيّة (ألمانيا وبلجيكا الحاليّة) بثورة ضدّ الرومان، وكانت الامبراطوريّة في حرب قاسية في مناطق البلقان وشرق أوروبا، وبعدها دخلت روما في حرب أهليّة داخلية. كلّ هذه الأحداث، وإن كانت في مناطق بعيدة، كانت تلقي بثقلها على الشعب اليهوديّ، بسبب ضرورة رفع الضرائب لسدّ تكاليف الحروب، أو بسبب إنقطاع المؤن التي تأتي من أنحاء الإمبراطوريّة، وبسبب حالة من الفوضى العارمة ونقص التنظيم وغياب العدالة، فكان لا بدّ من نظام يقمع الحرّيات أكثر فأكثر. نقرأ في كتب المؤرّخين المعاصرين لتلك الحقبة ما يمكنه أن يوضح لنا نصّنا هذا:
"أربعة أمراء قُتلوا بحدّ السيف، ثلاث حروب أهلية، حروب خارجية عديدة، وكلّها قائمة بالتزامن. أحداث حسنة شرقاً (يتكلّم عن هزيمة اليهود)، وأخرى سيّئة غرباً"، ليرية مدمّرة، وبلاد الغال (فرنسا وسويسرا) عاصية، بريطانيا سقطت..." (تاسيتوس المؤرّخ الرومانيّ). أمّا فلافيوس اليهوديّ فيخبر أن مجاعة حصلت في أورشليم بسبب الحصار قضى فيها مئات الآلاف، حتى بدأ الشعب يأكلون أطفالهم.
ويخبر سينيكا الرومانيّ عن الزلازل فيقول: "كم من المرّات سقطت المدن دفعة واحدة في آسيا وفي أخائيا بسبب زلزال! كم من المدن في إزمير، وفي مقدونية قد ابتلعتهم الأرض! كم مرّة إنهارت بافوس بأسرها...". ويروي فلافيوس عن أورشليم: "كانت المدينة محاصرة من الجانبين... وفجأة في الليل هبّت عاصفة مخيفة بقوّتها، وعصفت الرياح، وانهمر المطر وبدأ البرق يومض والرعد يصخب والأرض تهتزّ وتميد، لقد كان زلزالاً". هذه الأحداث كلّها قد عايشها متّى الإنجيليّ، وإزاء جماعة خائفة بدأ إيمانها يتزعزع، كان لا بدّ من أن يشرح لهم ضرورة الثبات في الإيمان، فالأحداث الطبيعيّة ليست مؤشّر نهاية الأزمنة. "فهذه بداية المخاض"، وهذه الأمور، على قسوتها، هي سهلة مقارنة بما سوف يأتي.
حِينَئِذٍ يُسْلِمُونَكُم إِلى الضِّيق، ويَقْتُلُونَكُم، ويُبْغِضُكُم جَمِيعُ الأُمَمِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي.
لقد بدأ إضطهاد المسيحيّين! قبل خراب أورشليم كان المضطهدون هم اليهود، رأوا في هذه "البدعة" الجديدة خطراً على دينهم وعلى وحدة شعبهم. هذا العداء اليهوديّ للمسيحيّين قد حاول نيرون أن يضعه في خدمة مشاريعه الرومانيّة. لقد كان حريق روما الّذي حصل في زمن نيرون متزامناً مع حروب خارجيّة كثيرة، وكان لا بدّ من إيجاد الطرق لإعادة إعمار روما وتمويل الجيش، فرفع الضرائب. كان اليهود في أورشليم منهكين من الحروب ومن المجاعة الكبيرة فثاروا على القرار، فاستعمل نيرون حقدهم على المسيحيّين لتهدئتهم، فألقى بتبعة حرق المدينة على المسيحيّين الموجودين في روما ليبيدهم من جهّة، وليكسب ودّ اليهود من جهّة أخرى. لقد دامت فترة الإضطهاد هذه ثلاث سنوات ونصف، ليموت نيرون بعدها فتكمل مع خلفائه. في هذه الفترة عرف المسيحيّون أسوأ الإضطهاد "وأبغضهم جميع الأمم من إجل اسم المسيح"، فكانوا يعانون الإضطهاد الرومانيّ من جهّة، وحقد اليهود واضطهادهم لهم من جهّة أخرى.
وحِينَئِذٍ يَرْتَدُّ الكَثِيْرُونَ عَنِ الإِيْمَان، ويُسْلِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا، ويُبْغِضُ بَعْضُهُم بَعْضًا.
لم يكن زمن الكنيسة الأولى زمن الأبطال والمسيحيّين الكاملين كما نتوهّم أحياناً، بل كان الكثير من المسيحيّين يرتدّون عن إيمانهم خوفاً من التعذيب والموت أو طمعاً بمغريات ماديّة وبمناصب يحتلّونها إن هم جحدوا الإيمان، وكان هذا الأمر ينطبق خصوصاً على المسيحيّين الرومان: فإعدام الرومانيّ أو حتّى تعذيبه لم يكن جائزاً بسهولة، بل كان يقدر أن يرفع شكواه إلى قيصر، لذلك كان يعمد المضطهدون إلى سياسة الترغيب ليجعلوا المسيحيّين يرتدّون. وكان المرتدّون يسلمون المسيحيّين الآخرين خوفاً من الموت أو طمعاً بمغانم مادّية وبمراكز.
ويَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين. ولِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَفْتُرُ مَحَبَّةُ الكَثِيْرين. ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِّهَايَةِ يَخْلُصْ.
لقد تكلّم النّص في بدايته على المسحاء الدجّالين، أي عن الّذين يوهمون المؤمنين أن بإمكانهم إعطائهم الخلاص. أمّا الآن فيدور الكلام على الأنبياء الدجّالين. النبّي لا يعلن عن نفسه أنّه مخلّص، ولكنّه يعلن إرادة الله في المجتمع، يدعو الناس الى درب الحقّ والخلاص. النبّي الدجّال هو من يوهم الآخرين أن إرادة الله هي في عدم الإقتداء بالإنجيل، هم من كانوا يقولون أن من الممكن للمسيحيّ أن يجحد إيمانه علناً في سبيل إنقاذ حياته وحياة أحبّائه، على أن يحيا إيمانه داخليّاً.
هذه النبوءة هي نبوءة كاذبة، لأنّها دعوة إلى خنق الإيمان بالمسيح في إطار الحياة الخاصّة السريّة، بينما هدف المسيحيّ هو الإعلان عن الحقيقة التي يملكها. هذا هو الإثم الّذي يتكلّم عنه النّص هنا، إثم إذا كثر، فترت المحبّة لدى الكثيرين. فالّذين يحيون إيمانهم على الصعيد الشخصيّ ويخشون من إعلانه على الملأ، لا يمكنهم أن يحيوا شريعة المحبّة الكاملة: لا يمكنهم أن يكونوا في خدمة الآخرين، ويبذلون نفسهم في سبيل من هو أكثر حاجة، من هو في وحدة، من يتألّم، من هو في خطيئة...
فمن يخاف من إعلان إيمانه لا يمكنه أن يحياه في حياته اليوميّة. الإيمان المسيحيّ ليس وليد لحظة وينتهي، بل هي مسيرة بطولة وجهاد تستمرّ مدى العمر، هي مسيرة نموّ ونضج لا تنتهي. المسيحيّ يبقى دائماً أمام خيارين، إمّا أن ييأس ويفقد صداقة إله أحبّه حتّى الموت، وإمّا أن يبقى وفيّاً لهذه الصداقة؛ إمّا إن يختار خير هذا العالم كأولويّة له، وإمّا أن يجعل في المسيح خيره الأسمى والأعظم. ومن يبقى على جهاده حتى نهاية حياته هو الّذي يخلص، لأنّ الإنسان يحمل معه أمام الله الديّان الخيار الأخير الّذي اختاره.
ويُكْرَزُ بِإِنْجيلِ الـمَلَكُوتِ هـذا في الـمَسْكُونَةِ كُلِّهَا شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَم، وحينَئِذٍ تَأْتِي النِّهَايَة"
يختتم متّى نصّه هذا ببشرى جميلة، رغم الويلات التي يُعلن الرّب قدومها. يُكرز بإنجيل الملكوت في المسكونة كلّها. إن قرأنا النصّ باللّغة الأصليّة نفهم التالي: "ويُعلن الخبر الجميل في العالم كلّه". فالإنجيل هو البشرى السّارة، بشرى الرّب الّذي لا يعلن الدمار والموت والمجاعات، بل الخلاص لكلّ البشريّة. وهكذا نفهم كلمة الرّب سابقاً: "لا تخافوا". الرّب حاضر دوماً وسط شعبه، وإن كان حاضراً فليعطي الخلاص، وليملأ القلب فرحاً حقيقيّاً.
هذه البشرى السارّة لا يُمكن أن تكون حكراً على صاحبها، فالمؤمن مدعوّ لأن يعلن للمسكونة بأسرها إنجيل الخلاص. العالم يقدّم لتلاميذ المسيح الحروب، وأخبار الحروب، والمجاعات والدمار، والمسيحيّ يقدّم للعالم البشرى الصّالحة. هذه هي دعوة كلّ مسيحيّ، أن لا يدع الخوف يتملّك على قلبه، دعوته أن يكون رجل الرّجاء، يحمل في قلبه الثقة بأن الرّب حاضر، وهو يعطي الخلاص للكون بأسره. حينئذ تأتي النهاية: نهاية كلّ شيء هي أن يعلن الإنجيل للبشريّة بأسرها، هي أن ينتصر خير الرّب على شرّ العالم، وأن ينتصر منطق الحبّ والعفو والأخوّة والخدمة.
عبرة لنا نحن اليوم
نحن اليوم، في عالم لا يختلف وضعه عن عالم القرن الأوّل، عالم تملأه الحروب والمجاعات، ويُثمر فيه الظلم وقلّة العدالة، ما هو موقفنا؟
نحن في عصر تعاني فيه الكنيسة اضطهاداً جديداً، يختلف بشكله لا بمضمونه: منطق العالم الماديّ لا يقبل رسالة الإنجيل. منطق الحقد لا يقبل منطق المغفرة، منطق العنف لا يقبل بالسّلام. العالم يرى الحلّ لمشاكله بالعنف، ويرى في المسيحيّ شخصاً ضعيفاً لأنّه يؤمن بمنطق الأخوّة.
العالم الماديّ يدوس الفقير، والمسيحيّ مدعوّ لأن يرى في الفقير صورة المسيح المتألّم على الأرض. نعم هو اضطهاد جديد، لأنّه رفض لمنطق المسيح ولرسالة الإنجيل.
هل نحن أنبياء كذبة، نعلن لأنفسنا وللعالم أن خلاصنا هو في يدنا، وأنّنا نحن نهب الخلاص للآخرين؟ هل نبشّر بالمسحاء الدجّالين الّذين يملأون عالمنا اليوم؟ مسيح المادّة، مسيح اللّذة، مسيح الخطيئة؟
كم من المرّات خشينا أن نجاهر بانتمائنا للرّب يسوع، خوفاً من هزء الآخرين منّا؟ كم مرّة كنّا أنبياء كذبة، قدّمنا إرادتنا على إرادة الله بكبريائنا وبسبب رغبة بالهرب من مستلزمات حياتنا المسيحيّة؟
كم كنّا عبيداً للوسواس وللقلق، ننتظر نهاية العالم وننسى أن الله الخالق كلّ شيء هو الّذي يحمل خليقته ويحميها. كم نقصت ثقتنا بالله ونسينا أنّه حاضر في حياتنا. كم مرّة جعلنا الله في المقام الأخير في حياتنا وقدّمنا رغبتنا وإرادتنا على إرادة الله ومشيئته.
زلازل كثيرة تهدّد أسس حياتنا: زلازل المشاكل العائليّة والماديّة، موت قريب أو حبيب، مرض وألم، حرب ومشاكل سياسيّة... فهل يبقى قلبنا ثابتاً في إيماننا بحضور الله في حياتنا؟ هل نسمع المسيح يقول لنا: "إنّها ليست النهاية"؟ فالألم والحزن والخوف لا يمكن لها أن تنتصر، والكلمة النهائيّة هي للرّب الحاضر في حياتنا، بحضوره يعطينا قوّة الثبات والإنتصار على كلّ شرّ. إن كان المسيح هو الصخرة الثابتة في حياتنا، فما من زلزال، مهما كان قويّاً، يمكنه أن يهدم كلّ شيء.
حياتنا المسيحيّة هي حياة جهاد دائم، نجاهد ضدّ منطق الدّمار. الهيكل المدمّر اليوم هو هيكلنا نحن، هيكل الرّوح القدس، جسدنا وحياتنا الرّوحيّة. الرّب يدعونا إلى الكفّ عن تدمير هيكلنا بالخطيئة وبالكبرياء، وللمباشرة في بناء الحياة الرّوحيّة، من خلال الصّلاة والإلتزام بإرادة الله حتى اللّحظة الأخيرة من وجودنا على هذه الأرض.
دعوتنا اليوم هي بعكس منطق الفرديّة والعنف والتسلّط، دعوتنا هي أن ننشر في المسكونة كلّها بُشرى الإنجيل كما قال يسوع لنا. دعوتنا هي أن نعلن "البشرى السارّة والجميلة"، لا أن ننشر الخوف واليأس والوسواس. دعوتنا هي أن نعلن، من خلال نوعيّة حياتنا، أنّ الخير سوف ينتصر، وأن الرّب حاضر، وأن منطق الإنجيل هو وحده يقدر على إعطاء العالم السعادة، ووحده يسوع يمكنه أن يملأ قلبنا بالفرح الّذي نفتّش عنه، فوحده يسوع يقول لنا: "لا تخافوا، أنا غلبت العالم".
الأب بيار نجم ر.م.م.