وكان بينهم أيضًا يهوذا الخائن «أضواء

ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة من عصر الجمعة رتبة سجدة الصليب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة الجمعة العظيمة بحضور حشد غفير من الكرادلة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين، وتخللت الرتبة عظة ألقاها الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي تحت عنوان "وكان بينهم أيضًا يهوّذا الخائن".

وقد استهلّ عظته بالقول نجد داخل قصّة آلام يسوع قصصًا صغيرة لرجال ونساء دخلوا في شعاع نورها أو في ظلامها ولكنّ القصة الأكثر مأساوية هي قصة يهوّذا الاسخريوطي، الذي تمّ اختياره منذ اللحظة الأولى ليكون أحد الإثني عشر. يكتب الإنجيلي لوقا عنه عندما يُدرَج اسمه في لائحة أسماء الرّسل: "ويَهوّذا الإِسخَرْيوطِيُّ الَّذي انقَلَبَ خائِناً" (لوقا 6، 16). لذا فيهوّذا لم يولد خائناً ولم يكن خائنًا عندما اختاره يسوع ولكنه أصبح خائنًا!

تابع الأب كانتالاميسا يقول: لماذا انقلب خائنًا؟ تخبرنا الأناجيل بأنه انقلب من أجل المال. لقد كان يهوّذا مسؤولاً عن صندوق الجماعة، ولذلك اعترض في بيت عنيا عندما دهنت مريم قدميّ يسوع بطيب الناردين الغالي الثمن، وبهذا الصدد يكتب الإنجيلي يوحنا: لكنّ هذا لم يكن لاهتمامه بالفقراء، "بل لأَنَّه كانَ سارِقاً وكانَ صُندوقُ الدَّراهِمِ عِندَه، فَيختَلِسُ ما يُلقى فيه" (يوحنا 12، 6). وبهذا الإطار أيضًا يأتي سؤاله لعظماء الكهنة جليًّا وواضحًا: "ماذا تُعطوني وأَنا أُسلِمُه إِليكم؟ فَجَعلوا له ثَلاثينَ مِنَ الفِضَّة" (متى 26، 15).

أضاف واعظ القصر الرسولي يقول: لماذا نندهش أمام هذا التفسير ونجده سخيفًا بعض الشيء؟ ألم يكن الأمر هكذا دائمًا عبر التاريخ؟ أوليس الأمر هكذا في يومنا أيضًا. أوليس المال أحد أصنامنا بامتياز؟ ويقول لنا يسوع بوضوح: "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يعمل لسَيِّدين، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِض أَحدهما ويُحبَّ الآخر، وإِمَّا أَن يَلزم أَحدهما ويَزدري الآخَر. لا تستطيعونَ أَن تَعمَلوا للّه وللمال" (متى 6، 24).

يقول لنا الكتاب المقدس: "إن حُبَّ المالِ هو أَصل كلِّ شرّ" (1 تيم 6، 10). ووراء كل شرور مجتمعنا هناك المال أيضًا. إنه الـ "مولوك" الذي يخبرنا عنه الكتاب المقدس والذي كانت تُقدَّم له ذبائح البنين والبنات (راجع إرميا 32، 35)، وهو كإله شعوب الآزتيك الذي كان يُُقدَّم له يوميًا عدد معيّن من القلوب البشريّة.

لكن ماذا هناك خلف الإتّجار بالمخدّرات الذي يدمّر حياة العديد من البشر؟ وماذا هناك خلف الاستغلال الجنسي وظاهرة المافيا والفساد السياسي وتصنيع الأسلحة؟ فالمال هو كسائر الأصنام "خدّاع وكذاب": يعد بالأمان ولكنه يَحرُم منه، يَعِد بالحريّة ولكنه يدمّرها! كم من مرة، في هذه الأيام، وُجب علينا أن نفكر بقول يسوع لذلك الرجل الغني الذي أخذ يكدِّس الغلال ليؤمّن مؤونة سنين كثيرة: "يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟"(لوقا 12، 20). 

تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول: إنّ خيانة يهوّذا تتابع عبر التاريخ، والمخدوع هو يسوع دومًا. فيهوّذا قد باع معلّمه أمّا أتباعه فيبيعون جسده، لأنّ الفقراء هم أعضاء جسد المسيح و" كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25، 40). لذا وكما نرى يمكن خيانة يسوع أيضًا لمكافأة من نوع آخر، أي غير الـ "ثلاثين من الفضّة": يخون المسيح الرجل الذي يخون زوجته والمرأة التي تخون زوجها. يخون يسوع كاهن الله الذي لا يبقى أمينًا لدعوته أو يرعى نفسه بدلاً من أن يرعى القطيع الموكَل إليه. يخون يسوع أيضًا كل شخص يخون ضميره.

يصف لنا الإنجيل نهاية يهوّذا الفظيعة: "فلَمَّا رأَى يَهوّذا الذي أَسلَمَه أَن قد حُكِمَ عليه، نَدِمَ وردَّ الثَّلاثين مِنَ الفِضَّةِ إِلى عُظماء الكهنةِ والشُّيوخ وقال: "خَطِئتُ إِذ أَسلمتُ دَماً بريئاً". فقالوا له: "ما لنا ولهذا الأَمر؟ أَنت وشأَنُك فيه". فأَلقى الفِضَّة عِند المَقدس وانصرَف، ثُمَّ ذهب فشنق نفسَه" (متى 27، 3- 5).

لكن علينا ألاّ نتسرّع بإصدار الأحكام! فيسوع لم يتخلَّ أبدًا عن يهوّذا ولا أحد يعرف ما كان مصيره بعد أن شنق نفسه: فما من أحد يمكنه أن يعرف ما كان يُخالج نفسه في تلك اللحظات الأخيرة! "يا صديقي" لقد كانت هذه الكلمة الأخيرة التي وجّهها يسوع ليهوّذا في بستان الزيتون ولا يمكن أن يكون قد نسيَها كما وأنه لا يمكنه أن يكون قد نَسِيَ نظرة يسوع له.

صحيح أنّ يسوع وخلال صلاته للآب من أجل تلاميذه قال: "فلَم يَهلِكْ مِنهُم أَحَدٌ إِلاَّ ابنُ الهَلاك" (يوحنا 17، 12)، لكنه لم يكن يقصد الأبديّة بحديثه هذا، حتى في ما كتبه القديس مرقس عن يهوّذا: "فلَو لم يولَد ذلكَ الإِنسانُ لَكانَ خَيراً له" (مرقس 14، 21) فهو يصف فظاعة العمل الذي سيقوم به ولا يمكننا أن نرى فيه سقوطه الأبدي.

أضاف واعظ القصر الرسولي يقول: إلى ماذا تدعونا قصة أخينا يهوّذا؟ تدعونا للإستسلام لذلك الذي يسامحنا طوعًا، والارتماء بين ذراعيه المفتوحتين على الصليب. فأعظم أمر في أحداث قصة يهوّذا ليست الخيانة وإنما جواب يسوع على هذه الخيانة، فيسوع كان يعلم بما كان يجري في قلب ذلك التلميذ ولكنه لم يكشفه أمام الآخرين بل ترك له الفرصة والخيار ليعود عن قراره. وفي بستان الزيتون، لم يرفض قبلته الباردة بالرغم من معرفته المسبقة لما كان مزمعًا أن يفعل، بل ناداه يا صديقي (متى 26، 15). وكما بحث عن وجه بطرس بعد إنكاره له ليمنحه غفرانه، هكذا أيضًا بحث يسوع عن وجه يهوّذا خلال مسيرته في درب الصليب! وعندما صرخ من على الصليب: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لأنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23، 34) فهو بالتأكيد لم يستثنِ يهوّذا من المغفرة!

وختم الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي عظته بالقول: ونحن ماذا سنفعل؟ مَن سنتبع يهوّذا أم بطرس؟ فبطرس قد ندم على ما فعله، كذلك يهوّذا ويظهر هذا عندما صرخ: "خَطِئتُ إِذ أَسلمتُ دَماً بريئاً" وألقى الفضة عند المقدس وانصرف. لكن أين يكمن الفرق بينهما؟ لقد وثق بطرس برحمة المسيح أما يهوّذا فلا! وخطيئة يهوّذا الكبيرة لم تكن بخيانته ليسوع بل بعدم ثقته برحمته! فإن كنا قد تشبّهنا بيهوّذا في خيانتنا للرب، فلا نتشبّهنّ به إذًا بعدم الثقة برحمته وغفرانه. لأنّ هناك سرّ بإمكاننا أن نختبر من خلاله رحمة المسيح وهو سرّ المصالحة. إنه سرّ جميل يمكننا أن نختبر من خلاله يسوع كمعلّم وربّ ولاسيّما كمخلّص: كذلك الذي ينتشلنا من الموت إذ يلمسنا كما لمس الأبرص ويقول لكلّ منا: "قد شِئتُ فَابْرَأ!" (متى 8، 3).

إذاعة الفاتيكان