نتأمّل في أربعاء أيّوب... «أضواء
ها هو الإنسان يصرخ كلمة الحقّ، حين دقّت ساعة الحقّ، عرياناً خرجت من جوف أمّي وعرياناً أعود إلى هناك.
لقد ذاق الإنسان طعم الألم وخبِر تجربة خسارة كلّ ما له. وإذا به أمام عري الواقع، وحيداً لا مال ولا مقتنى ولا أولاد ولا صحّة ولا جمال. وحده خائر القوى يلامس اليأس ولا يقع، ويداني الكفر ولا يجهر به. يعرف أنّ ليس هناك شيء ممّا له ولم يعطه، ولا يفهم لماذا تؤخذ خيراته منه.
يصرخ إلى الله لعلّه يجد فيه سنداً لهمّه وعزاء لغمّه، ولكنّه لا يسمع جواباً فيقلق. أتراه وحده في عتمة هذا الكون العنيد الطمّاع الذي لا يريد لأحدٍ خيراً؟ يصمت حائراً ويسقط خائراً قلبه مليء بالعتب، يسند رأسه بيده ليرى وجه السماء ويصرخ: عتبي عليك يا ألله وماذا جنت يداي حتى أصاب بكلّ ما رميت به من أسى وشقاء.
حكاية أيوب هي حكاية ثقة الله بالإنسان الصادق. نحن نقول حين نعلن إيماننا بقانون الإيمان "نؤمن بإله واحد"، ولكنّ الله قد سبقنا وأعلن إيمانه بالإنسان الذي يسمع كلام الله ويعمل به متكلاً تمام الإتكال على الله، لا على قواه الخاصّة التي تسقط كالرماد أمام الريح. راهن الله بأنّ أيوب لن يسقط ولن يكفر ولو ضُرب بشرّ الضربات.
بينما راهن الله على الضعيف، نرى بالمقارنة مع إيليا النبي الغيور حامل السيف للدفاع عن عقيدة الإيمان المستقيم، أن هذا الإنسان القويّ إكتشف أنّ قوّته بعيداً عن الله لا تساوي شيئاً. فراهن هو على الله ونجدته له. الله يراهن على الإنسان الضعيف، والإنسان القويّ يراهن على الله. هي هي قصّة البشرية منذ كانت. فحين اتكل آدم على قدرته بعيداً عن الله سقط وحين قال المسيح لتكن مشيئتك يا الله، تمّت الغلبة على الموت وعلى الخطيئة وعلى الشيطان.
لئن عتب الإنسان مع أيّوب على ربّه فعتابه محبّب مبرّر. أمّا إنساننا اليوم فأيّ ألم تراه يشكو أكبر من ألم البعد عن الله ورفضه إيّاه.
عالم اليوم أقرب ما يكون إلى الكفر الشامل الذي وقعت فيه البشرية يوم صرخت أصلبوه اصلبوه. لقد فقد الإنسان غاية وجوده الحقيقية، وراح يعبث متحدّياً ربه متّكلاً على عقله وعلمه ومختبراته ومصانعه، تاركاً ما هو لله يغرق في طيّات الزمن العتيق.
لقد خسر الإنسان مرجعيته السامية وانتسب إلى ذاته ليس إلّا، فخسر تلك المرجعية العليا ولم يقدر أن يعرف ذاته حقّ المعرفة. ولكنّ الله لا يترك شعبه فغالباً ما نسمعه يقول: من أُرسل ومن ينطلق ليوقظ شعبي. وتروح كلمات الهداية تقرع الصدور والأبواب. ويسمع الإنسان فيسكت ويصغي ويعرف أن رجعته إلى بيت الآب وعدٌ قد تحقّق، وأنّ كلمة أيّوب "عرياناً خرجت وعرياناً أعود" كان ينقصها فعل الخلاص، ولم يعد للألم مكاناً في الدنيا، لأنّ المسيح أعطى بآلامه آلامنا لوناً جديداً وطعماً جديداً وهدفاً جديداً. وإذا بنا نعود مزوّدين بحبّ الله قرباناً وبرحمته غفراناً. نعود وقد لبسنا ثياب المجد ناصعة كالثلج بياضاً لأنّها قد غُسِلت بدم الحمل.
الأب كميل مبارك