نؤمن بإله يأتي... ورسالتي تكشف عنه «أضواء
يسوع هو الطريق
لا نعرف في أيّ طرق تسير حياتنا، سوى ما يقوله المزمور ٢٣: "الربّ راعيّ لا يعوزني شيء. في مراع خصيبة يقيلني ومياه الراحة يوردني"، وذلك حتّى "ولو سرتُ في وادي ظلال الموت"! لا أحد منّا يملك مفاتيح المسيرة الروحيّة ولكنّنا نعرف "الطريق": يسوع. ونريد أن نعرفه دائمًا "أكثر"، بشكلٍ "أعمق"، أن نتآلف معه فنزداد تشبهًا به.
لأنّ يسوع هو "الإبن"، هو تحقيق دعوتنا الأعمق والأعمّ، هو شوقنا الأقدم، أقدم من أيّ خطيئة ومن أيّ حزن ومن أيّ تعلّق غير منظّم. لأنّ دعوتنا هي أن نكون أبناء الله وبناته. هو غذاؤنا، فيه حرّيّتنا، منه جرأتنا، لأنّه هو كلمة الله إلينا، كلمة "كن" الجبّارة الّتي بها خلق العالم. يقول لكلّ منّا: "كن، أريدك، أحبّك." لا كما يقول العالم: "كن شيئًا! كن قويًّا! كن ناجحًا! كن كذا وكن كذا..."
المسيح هو أيضًا كلمتنا إلى الله، كلمة "هاءنذا" الجريئة. يقدّم الوثنيّون تقادم وذبائح لإرضاء الآلهة، ويتّبعون فرائض لاتّقاء شرّ السماء. "هذا الشعب يكرمني بشفتيه، أمّا قلبه فبعيد عنّي" (متّى 15: 8)، يقول الربّ! أمّا الابن فهو من يقول بكلمات المزمور 40: "ذبيحة وتقدمة لم تشأ، لكنّك فتحتَ أذنيّ، ولم تطلب محرقة وذبيحة خطيئة. حينئذٍ قلتُ هاءنذا آت، فقد كُتب عليّ في طيّ الكتاب: هواي أن أعمل بمشيئتك يا الله، شريعتك في صميم أحشائي."
المسيح هو تدبير الله الأزليّ أي هو رغبة الله في الحياة والبركة لكلّ كائن، فيه يتحقّق التدبير لأنّه ينال البركة منذ الأزل وبشكل كامل، وهو يحقّق التدبير بأن يوصل البركة إلى الكلّ عن طريق إخلاء الذات. يسوع هو "المختار" الّذي يحمل اسم الله فتقع عليه تعييرات المعيّرين، ولكنّه لا يعدّ مساواته لله امتلاكًا بل يخلي ذاته مشاركًا الكلّ في ذاته.
"الكلّ" أي كلّ من أراد... رغباتنا وقراراتنا محوريّة في تحقيق تدبير الله فينا. مع أنّ هذا التدبير مستقلّ عنّا، لأنّه في صميم الثالوث، في حبّ الآب والابن، إلاّ أنّه ينفتح لنا بشكل دعوة، بدون اقتحام ولا استعباد. وحياتنا هي قصّة هذه الدعوة. قصّة التدبير الّذي ينقلنا من العدم إلى الوجود، من الموت إلى الحياة، من قساوة القلب إلى الحبّ، من الخطيئة إلى الرجاء، من التذبذب إلى الرسوخ.
ولادة الرسول فينا
ليس يسوع "حامل الرسالة" فحسب، بل هو الرسالة. ليس لتعليمه مضمون محدّد، بل هويّته هي المضمون. ما يسلّمه إلينا هو ذاته. وما نستلمه ليس محتوى نتعلّمه أو نفهمه بل نستلم روحه، أي نصير مثله، نتحوّل إليه. فالروح القدس "يأخذ ممّا لي ويهب لكم" (يو ١٦: ١٣ -١٥)، يجعل فينا "الشعور الّذي هو أيضًا في المسيح يسوع" (فيل ٢: ٥)، ويجعل لنا "فكر المسيح" (١كو ٢: ١٦).
بكلمة أخرى، تكتمل رسالة يسوع في الشخص الّذي يصير "مسيحًا آخر"، في الّذي يقبل حبّ الله له في قلب المسيح إلى درجة أن يقبل حبّ الله للعالم في قلبه هو. هذا هو الرسول. ليس الإنجيل قصّة يسوع، بل هو قصّة ما يحصل في قلب الإنسان الّذي يلتقي بيسوع حتّى يصير رسولاً. لا أدري ما الأعظم: خلق العالم من العدم أم ولادة الرسول في ابن آدم؟
حياتنا الروحيّة هي ولادة الرسول فينا. ليس الرسول من ينطلق للبشارة بل من وضع نفسه في تصرّف الله يرسله كما يريد. الرسول موقف داخليّ، حالة داخليّة أكثر منها خارجيّة. موقف تأهّب، "هاءنذا"، "تركنا كلّ شيء وتبعناك". أمّا في الخارج فمِنَ الرسل من يرسله الله في الحياة المكرّسة ومنهم من يرسلهم في داخل الحياة العلمانيّة، منهم من يرسلهم بين الفقراء في التعب والكدّ ومنهم من يرسلهم بين الأغنياء أو في المؤسّسات والأوطان.
منهم من تعرّض الرسالة حياتهم للخطر، ومنهم من يقضون حياتهم في أمان واستقرار. ولكن يجمعهم أنّهم أحبّوا المسيح فوق حبّ الذات (رؤيا ١٢: ١١) ولم يعودوا ينظرون إلى أنفسهم بل إلى الّذي أرسلهم. تهمّهم رسالة يسوع، تدبيره، مشروعه، أكثر من مساعيهم الخاصّة وأكثر من مشاريع الناس.
الله لم يره أحد قطّ...
على عكس الأصنام الّتي هي "فضّة وذهب، صنع أيدي البشر، لها أفواه ولا تتكلّم، لها عيون ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع... مثلها يصير صانعوها وجميع المتّكلين عليها" (مزمور 115)، يكشف الله عن نفسه لموسى بهذه الكلمات:
فقال الربّ: "إنّي قد رأيتُ مذلّة شعبي الّذي بمصر، وسمعت صراخه بسبب مسخّريه، وعلمتُ بآلامه، فنزلت لأنقذه..." (خروج 3: 7-8). الإله الحيّ الّذي ليس صنع البشر يتكلّم، ويرى، ويسمع، ويعلم، ويأتي... ولكنّنا لا نراه، بل نرى موسى رسوله، الّذي بسبب الربّ، صار يتكلّم بكلام الربّ، ويرى بعيني الربّ، ويسمع بآذان الربّ، ويأتي من قبل الربّ.
الله لم يره أحد قطّ، الرسول يجعل الربّ ظاهرًا. كما الريح لا نراها، لكنّ العَلَم الّذي تحرّكه الريح يجعلها ظاهرة. كذلك يقول الإنجيل: "الله لم يره أحد قطّ، الابن الوحيد الّذي في حضن الآب هو كشفه لنا." (يوحنّا 1: 18).
هذه حال كلّ من تحرّكه أحشاء الله، كلّ رسول يكشف لنا عن حبّ الله. ليست رسالتي عملاً أعمله، بل أنطلق ممّا يحرّكني نحو الآخرين، أنطلق من الحركة الّتي تولّدها فيّ علاقتي بالله، فتصير رسالتي كشفًا عن الله. "لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ." (غلاطية 2: 20).
نؤمن بإله يأتي، ولهذا نحن أيضًا نأتي إلى العالم. فرسالتنا هي حياتنا، وحياتنا هي رسالتنا. ليس "لي" رسالة، بل أتلقّى من الله كلّ حياتي على أنّها رسالة، رسالة تكشف عن حقيقة الله الّذي يعطي الحياة. "لقد اتّضح أنّكم رسالة من المسيح، (...) لم تُكتب بالحبر بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح من حجر بل في ألواح هي قلوب من لحم." (2كو3:3).
للتأمّل: رسالة يسوع من خلال ٧ كلمات (أو "نؤمن بإله يأتي")
* "أتيتُ لتكون الحياة للناس ولتفيض فيهم" (يو ١٠: ١٠)
الحياة الّتي تفيض هي حياة الله نفسه تفيض في مخلوقاته. غاية رسالة يسوع إتمام القصد الأصليّ، تحقيق الغاية من الخلق. والله يفيض حياته بأنّه يبذلها، يعطيها، يشركنا فيها، أي يجعل نفسه عرضة للغربة في حياته ذاتها. اكتمال الحياة فينا أن تصير فينا أيضًا بذلاً للذات ودخولاً في الشركة وتعرّضًا للغربة.
* "جئتُ لألقي على الأرض نارًا" (لو ١٢: ٤٩)
أتى يعمّدنا بالروح القدس والنار. أيّ نار يقول فيها يسوع "ما أشدّ رغبتي في أن تكون قد اشتعلت"؟ لعلّه يقصد الرسل: أن يكون نجح في إرساء قلوبهم لجهة الله وقصده. فالنار الّتي يعنيها يسوع هي نار الروح الّذي أتى يسلمه الرسل، فيسلموه بدورهم إلى رسل جدد وهكذا دواليك.
* "أتيتُ لا لأُخدم بل لأخدم" (مر ١٠: ٤٥)
الله لم يره أحد قطّ، أتى يسوع يكشفه لنا. وما ينكشف هو إنسان يخدُم ولا يُخدم، يكشف بذلك الإله الّذي يعلنه: إله يحبّنا أوّلاً ومجّانًا، لا بمقابل حبّنا ولا بمبادرة أعمالنا. الإنسان الّذي يخدم طوعًا إنسان ملأ قلبه الشكر والامتنان تجاه خالقه حتّى ليقول: "مسبّح أنت يا إلهي لأنّك خلقتني". عكس ذلك من يعتقد أنّ "كل من خلق علق"، فيطالب العالم بالتعويض ولا يرى مانعًا من استغلال الآخر إن استطاع.
* "لم آتِ من أجل الأصحّاء بل من أجل المرضى" (متّى ٩: ١٢)
لا يجوز أن نحبّ المرض فوق الصحّة، ولكنّنا لا نحتقر فقرنا وعجزنا ومرضنا لأنّها فينا صلاة صامتة، انتظار للمخلّص وتصديق لوعوده. قول يسوع دعوة لأرى وأستقبل أمراضي وأمراض الإخوة بلا حكم عليهم ولا احتقار.
* "عليّ أن أبشّر بالملكوت، فإنّي لهذا خرجتُ" (مر ١: ٣٨)
الملكوت: حيث الله ملك، أي حيث حبّه مقبول وهو الشريعة الوحيدة! أتى يسوع ليبشّر بملكوت الله، أي ليظهر نهاية كلّ ملكوت آخر، ليظهر الفساد المختبئ في زوايا أنظمة الحكم والضحايا المرميّة في الطبقات السفليّة من كلّ المجتمعات. أتى ليكشف أنّ العدل يمرّ بحبّ الحقّ في أعماق النفس.
* "هكذا أحبّ الله العالم حتّى إنّه جاد بابنه الوحيد لكيلا يهلك كلّ من يؤمن به" (يو ٣: ١٦)
لماذا حياتي؟ ليظهر أنّ الله يحبّ العالم!! "ما دام لنا متّسع من الوقت، لنصنع الخير لجميع الناس" (غلاطية ٦: ١٠).
* "أتيتُ لأشهد للحقّ" (يو ١٨: ٣٧)
كلمة الآب الخالقة تعدو عدوها – في حياة يسوع – كما الشمس في مدارها (مز ١٩)، كما الماء في دورتها (أش ٥٥)، وفي حياة الرسل وفي حياتي، كالنور في ظلمات لا تدركها، كالحقّ يفصل في الباطل، كلمة تجري التمييز وتخرج من الخلط كما أخرجت اليبس من الماء والوجود من العدم.
الأب داني يونس اليسوعيّ