مولد يوحنا المعمدان «أضواء

  

 

 

مولد يوحنا المعمدان إبن زكريا وأليصابات يسبق ميلاد يسوع المسيح، الإله المتجسِّد، مثلما الفجر يسبق طلوع الشمس. ولهذا سُمّيَ "يوحنا السابق".  وإسم يوحنا يعني "الله رحوم"، وقد خدم يوحنا رحمة الله بمعمودية التوبة التي كانَ يمنحها على ضفاف الأردنّ، فسُمّيَ "المعمدان". يوحنا هو إعلان رحمة الله للبشر، ودعوةٌ لتحقيق الرحمة، وفقاً لإنجيل التطويبات: "طوبى للرحماء، فإنهم يُرحمون"(متى 5: 7).

- "إسمه يوحنا".  هو اسمٌ شاءَه الله ليُحدِّدَ في سرِّ تدبيره دور هذا المولود، الذي أراده الله، في تاريخ الخلاص. اللفظة العبرية "يهوحنان" أي "الله رحوم". كان على يوحنا أن يشهد لرحمة الله ويخدمها. 

هو نفسه شهادة للرحمة الإلهية،  لكونه هبة من الله لزكريا واليصابات، اللذين عاشا حياتهما الزوجية "بارّين عند الله، تابعَين جميع وصاياه وأحكامه، ولا لوم عليهما"(لو 1: 6)، حتى أنّ الجيران والأقارب فرحوا مع أليصابات عند مولده لأنّ الرّبّ رحمها رحمة عظيمة(لو 1: 58). 

ودعا إلى عيش الرحمة مع الناس، من أجل نيل الرحمة من الله بالتوبة إليه. دعا إلى عيشها في وجوهها الثلاثة عندما سُئلَ من بعض من الاشخاص: "ماذا نعمل؟" فأجاب أنَّ الرحمة مع الناس تُعاش محبة تجاه المعوزين: "مَن عنده ثوبان، فليُعطِ مَن لا ثوب له؛ وعدالة شفافة في تعاطي المال: "لا تجبوا أكثر من المطلوب" والقناعة في العيش: "لا تظلموا أحداً، واقنعوا برواتبكم"(لو 3: 10-14). 

وشهد لرحمة الله التي تظهر في شخص المسيح، بكل كمالها، على ما كتب يوحنا الرسول في أنجيله: "جاء إنسان مرسَل من الله، إسمه يوحنا. أتى ليشهد للنور، لكي يؤمن الجميع على يده. لم يكن هو النور، بل جاء ليشهد للنور"(يو 1: 6-8).

إنَّ شهادة يوحنا لنور المسيح لم تكن شهادة خارجية وبالكلام، بل كانت مشاركة واستنارة بنور المسيح، بنوعٍ وكأنه يتماهى معه. لذلك سأله الشعب: "أأنتَ المسيح؟ فأجاب: لست المسيح. أأنتَ إيليا؟ فأجاب: لستُ إيليا"(يو 1: 21).

- نحن كمسيحيين جُعلنا بقوة الرّوح القدس شهوداً للمسيح (أعمال 1: 8). ما يعني أن نكون "مسيحيين" أي "مسيحاً آخر" في القول والمثل، في كل لحظة من حياتنا؛ أن نكون شهوداً للحقيقة التي علّمها المسيح، وتواصِل الكنيسة تعليمها.

ما اجمل أن نكون مثل يوحنا الذي شبّهه المسيح بسراج يُنير الحقيقة، ويختفي عند ظهورها. هكذا قال يوحنا عن نفسه: "عليَّ أن أنقص وعلى المسيح أن ينمو"(يو 3: 30). هذه حال السراج عندما تشرق الشمس. وهكذا مع مجيء المسيح فقدتْ معمودية يوحنّا مُبرِّر وجودها.

كم نحن بحاجة للتخلّي عن الكثير أمام حقيقة المسيح وكنوزه. ألم يشهد يوحنا بجرأة: "الذي يأتي بعدي، ها هو قدّامي، لأنه كان قبلي"(يو 1: 30)، هكذا كان يوحنا في آن "السابق" للمسيح، و "الشاهد" له، لأنه هو قبله منذ الأزل.

بلغ التواضع بيوحنا حتى قال في شهادته: "أنا لا أستحق أن أحلّ سَير حذائه". تجرُّد و تواضُع هما فضيلتان أساسيتان لكي تكون شهادتنا للمسيح صادقة وفاعلة. إنّ عمل المسيح يحمل عملنا إلى كماله، كما حمل معمودية يوحنا بالماء إلى كمالها في معمودية الرّوح القدس والنار(لو 3: 16؛ مر 1: 7-8؛ متى 3: 11).

معمودية يوحنا بالماء كانت علامة للتوبة، أمّا معمودية المسيح فلغفران الخطايا وإعطاء الحياة الجديدة بالرّوح القدس. المعمودية المسيحية تجعل المعمّد "خليقة جديدة"(2 كور 5: 17)، و"تُلبسه المسيح"(غل 3: 27)، و"إبناً لله بالتبنّي"(غل 4: 5-7) 

سرّ المعمودية هو الأعظم بين عطايا الله وعظائمه: 

إنه عطية لأنه مُعطى للذين لم يجلبوا شيئاً؛ ونعمة، لأنه يُعطى حتى للمذنبين؛  وموتٌ روحي، لأنّ الخطيئة تُدفَن تحت الماء؛ ومسحة لأنه مقدَّس وملوكي؛ واستنارة لأنه نورٌ مُشعّ؛ وثوبٌ لأنه يستر عريَنا؛ وغسلٌ لأنه يغسل نفوسنا من الخطايا؛ وختمٌ لأنه يحفظنا ويدلّ على سيادة الله المطلقة.

- إنجيل مولد يوحنا المعمدان هو انجيل الرحمة، رحمة الله وحنانه تجاه كل إنسان. الرحمة تعني المشاعر الانسانية والشفقة واحترام الشخص البشري وكرامته والمغفرة وتفّهُم الآخر  وتُسمّى أيضاً في القوانين إنصافاً. الرحمة – الإنصاف هي أساس العدالة وروحها. غالباً ما تكون العدالة من دون الرحمة أو الإنصاف ظلماً. نقرأ في المزمور 85/11: "الرحمة والعدل تلاقيا"، ما يعني أنَّ الرحمة هي القبلة المطبوعة على جبين العدالة.

صلاة :

أيّها الرّبّ يسوع، يا رحمة الله المتجسّدة، إملأ قلوبنا مشاعر إنسانية، وأعطنا أن نتحلّى بأخلاق المحبة والرحمة والإنصاف، لكي نعدل في أحكامنا وتصرفاتنا وتعاطينا. جدّد فينا عطيّة الرّوح القدس، لكي بقوّته نشهد لك وللحقيقة التي تجمع وتحرّر. وليكن لنا يوحنا المعمدان السابق والشاهد، المثال والقدوة، فنؤدي شهادتنا بتواضع وتجرّد. ونرفع المجد والشكران للآب والإبن والرّوح القدس، الآن والى الابد، آمين.

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي -2011