منطق الثالوث(5) «أضواء

 

 

 

الرّوح القدس

لقد تحدّثت حتّى الآن عن الآب والإبن، وتجاهلت الرّوح القدس كأنّ ليس له من وجود أو دور، وكأنّ كلّ ما تمّ بين الآب والإبن تمّ بدونه. فهل للرّوح دور في إطار اللاهوت وأيًّا قد يكون هذا الدور؟. 

الرّوح القدس في الثالوث

في إطار قصّتنا، تحدّثنا عن صوت خافت يهْمِس داخل الآب ليدفعه إلى أنْ يحبّ وينطلق... ووجدنا نفس الصوت يهْمِس أيضًا داخل الإبن ليدفعه هو بدوره إلى أنْ يُعيد الهبة التي نالها إلى مصدرها... فنستطيع الآن أنْ نكشف اسم هذا الصوت الخافت: فهو الرّوح القدس الذي يمثّل نزعة العطاء في الألوهيّة.

إن الرّوح القدس بمثابة سهم ذي اتجاهين، يمثّل ديناميّة الحبّ بين الآب والإبن وحركة العطاء المتبادَل بينهما. وهو السهم الذي يدفع كلاً منهما نحو الآخر. هو في الآن نفسه يربط ويوحّد بينهما... لذلك نرى الكنيسة، في ختام صلواتها، تذكر دائمًا الآب والإبن " في وحدة الرّوح القدس "... فالرّوح القدس شرط لتحقيق المحبّة الإلهيّة، بلّ هو المحبّة بالذات. 

الرّوح القدس فى الكتاب المقدّس

إنَّ الرّوح في الكتاب المقدّس له شخصيّة غامضة وشبه متناقضة. فنجده على شكل طير يرفرف على وجه المياه في بداية الخليقة، أو على شكل حمامة تحلّق فوق نهر الأردن يوم عماد المسيح - وقد يكون هذا رمزًا للخصب ولبَثّ الحياة. (تكوين 1/1 ومتّى 3/16).

ونجده أيضًا على شكل نسمة نَفَخَ بها الله في أنف آدم، عندما خلقه (تكوين 2/7) - وأيضًا على شكل نسيم خافت حين كان إيليّا النبي على جبل الكرمل ( 1 ملوك 19). ولكنّه ظهر أيضًا بشكل مخالف تمامًا يوم العنصرة، حيث تحوّل النسيم الخفيف إلى ريح عاصفة هزّت البيت على قواعده. ثمّ نزل الرّوح على شكل ألسنة من النار أشعلت التلاميذ غيرةً وشجاعة وأطلقتهم إلى الخارج (أعمال 2).

وسمّيَ أيضًا الرّوح في الإنجيل " البارقليط " وهي كلمة تعني المعزّي أو المحامي أو المُلْهم (يوحنّا من 15/26 إلى 16/15 ).

وبولس الرّسول يتكلّم عن الرّوح كلامه عن العنصر الجامع والموحّد في الكنيسة التي، رغم اختلاف المواهب والوظائف فيها، تشكّل جسدًا واحدًا (1 كورنتس 12). وهذا الدور في الكنيسة يشابه تمامًا الدور الذي يقوم به الرّوح في داخل الثالوث. 

الرّوح القـدس في الإنسان

عندما يحاول الإنسان أنْ يتصوّر الرّوح، يجد نفسه عاجزًا. فما هو الرّوح، وما شكله وها هو كيانه؟ ولماذا لا يمكن تحديده؟.

في استطاعتنا أنْ نتصوّر الأبوّة في الله مقارنة بالأبوّة البشريّة، وكذلك يمكننا أنْ نتصوّر كيان الإبن من خلال الإنجيل. أمَّا الرّوح القدس، فلا نعرف عنه الكثير. وقد لا نفهمه، لأنَّه مصدر الفهم، ولا نعرفه لأنه منبع المعرفة، تمامًا كما أنَّ النور لا يُرى لأنَّه مصدر الرؤية. أنت لا ترى عينيك، لأنها جهاز البصر في جسمك. والرّوح هو عنصر يقيم في داخلنا ويجعلنا نفهم كلّ شيء، دون أنْ نفهمه. وهو الذي ينير كل شيء فلا نستطيع أنْ نراه. إنَّه مصدر الفهم والبصر والرؤية. وله في الانسان نفس الوظيفة التى يمارسها في الله، وظيفة غنطلاقيَّة، تجعل الإنسان يبذل نفسه ويهب ذاته. هو حركة الحياة، حركة الإنبثاق.  

إنبثاق الرّوح القدس

يتحدّث قانون الإيمان عن الرّوح بأنَّه منبثق ". فما معنى " الإنبثاق "؟ وما الفرق بين الولادة والانبثاق؟ نقول عن الإبن إنَّه مولود من الآب لأنَّه يأخذ من الآب كلّ شيء. ومفهوم الولادة هو عطاء من ناحية وقبول من ناحية أخرى. أمَّا الإنبثاق فهو دفعة أو نزعة لتحقيق العطاء والمحبَّة، أو هو حركة إنطلاق وإندفاع، ينبثق الرّوح القدس بقدر ما تتحقَّق المحبَّة من الآب والإبن بالعطاء المتبادَل.

إذا عُدنا إلى القصة الأولى، نستطيع أنْ نقول إنَّ الرّوح القدس قد اكتمل عندما أعاد الإبن الهبة إلى الآب، مع عدم وضع عامل الزمن فى الحسبان. إنَّ حركة الإنبثاق قد تمّت عن طريق الولادة. فيمكننا القول إنَّ الولادة شرط للإنبثاق، كما أنَّ الإنبثاق شرط للولادة. وما قلناه عن الآب والابن بأن تواجدهما فى آنٍ واحدٍ مرتبط بوجودهما معًا، نقوله كذلك عن الرّوح القدس. لا يمكن أنْ نتصوّر الآب والإبن بدون الرّوح القدس، لأنَّه شرط إتمام هذه الحركة. لذا يتواجد الثلاثة معًا كشرط تواجدهم كإله واحد: الثلاثة مرتبطون ارتباطًا لا ينّفك. وهم معًا كشرط لتحقيق الألوهيّة الواحدة. هذا ما حاولّنا إثباته عن طريق المنطق والعقل.

هناك نقطة خلاف بين الكاثوليك والأرثوذكس بالنسبة إلى انبثاق الرّوح القدس. يصف الكاثوليك الرّوح القدس في قانون الإيمان بأنَّه منبثق من الآب والإبن، في حين أنَّ الأرثوذكس يقولون إنَّه منبثق من الآب فقط. فما هو تفسير هذا الخلاف؟ عندما صيغ قانون الإيمان في القرن الرابع الميلاديّ، صيغ هكذا: " المنبثق من الآب" كما ورد حرفيًا في إنجيل يوحنّا (15/26).

وحين انفصلت كنيسة مصر عن كنيسة روما، احتفظت بهذه الصيغة الأصليّة - أمَّا الكنيسة البيزنطية فمالت إلى التعبير الآتي: " المنبثق من الآب من خلال الإبن "... فى حين توصَّل اللاهوت الكاثوليكي إلى العبارة الآتية: " الرّوح القدس منبثق من الآب والابن ".

والتعبيرات الثلاثة صحيحة في نظري. فالرّوح القدس منبثق من الآب، لأن الآب هو الصدر، وهو " منبثق من خلال الإبن "، لأنَّ انبثاق الروح تمَّ عن طريق ولادة الإبن، ولا مانع من أن نقول إنَّه " منبثق من الآب والإبن "!!! إذ إنَّه رّوح الآب والإبن على السواء، وهو السهم ذو الاتجاهين الذي يمثل العطاء المتبادَل بين الآب والإبن. وهذا ما جعل الكاثوليك يقرّون بأنَّ الإنبثاق هو من الآب والإبن، وأدخلوا هذا التعديل في القرن الرابع عشر!!!.  

ثلاثـة في واحد

بعد ما حاولنا أنْ نحلّل وأنْ نفسّر ما لا يُفسّر، لنفهم مقتضيات المحبَّة في الكيان الإلهيّ، علينا الآن أنْ نجمع ونوحّد ما اضطررنا إلى أنْ نجزّئـه.

هذه التجزئة في حيّز مكانيّ كانت تهدف إلى تقريب الموضوع إلى عقولنا الضعيفة، مع أنَّه ليس هناك مجال، في الذات الإلهيّة البسيطة والروحيّة، لمكان أو لمسافة.

كذلك اضطررنا أيضًا إلى أنْ نضع في إطار زمنى ما هو أزليّ وأبديّ لدى الله.

فعلينا الآن، في نهاية المطاف، أنْ نُلغي عنصر المكان وعنصر الزمن اللذين أدخلناهما خطأ في الذات الإلهيّة. 

لقد رسمنا  دائرة للآب ثمّ أمامها دائرة للإبن، ثمّ دائرة ثالثة بينهما تمثل الذات الإلهيّة.

علينا الآن أنْ نضغط على هذه الدوائر الثلاث حتّى نجعل منها دائرة واحدة تجمع الآب والإبن والرّوح القدس في وحدانيّة الذات الإلهيّة البسيطة.

ليس هناك إبن أمام الآب ومنفصل عنه.

ليس هناك آب فوق الإبن ومنعزل عنه.

وليس هناك رّوح مستقلّ عنهما، إذ إنَّه روحهما المشترك.

وليس هناك ذات إلهيّة قائمة بذاتها خارج الأقانيم الثلاثة كعنصر رابع متميّز عنها. 

إن كنّا قد لجأنا إلى هذه التصوّرات، فلكي نشرح فقط، ولكوننا جسديّين وزمنيّين.

في الولادة البشرية، ينفصل الإبن عن أبويه ليتمتّع بحياة مستقلة وكيان منفصل، في حين أنَّ ولادة الإبن من الآب هي ولادة داخل الذات الإلهيّة ولا تمثل أي انفصال عن كيان الآب، بل هى ثبات فيه. إنَّ تعبير الإنجيل صريح وواضح كلّ الوضوح، فهو يتكلم عن " الإبن الواحد الذي في حضن الآب " (يوحنا 1/18).

لم ينفصل الإبن عن الآب لحظة واحدة، ولم يبتعد عنه على الإطلاق، حتّى فى عمليّة التجسّد. وهذا ما جعل يسوع يردّ على فيلبّس الذي قال له: " أَرِنَا الآَب وحَسْبَنَا ": " يَا فِيلُبّس، مَنْ رَآَنِي رَأَى الآب ... أّلاَ تُؤمن بأنِّي في الآب وأنَّ الآب فيَّ ؟ " (يوحنّا 14/10).

كلّ ذلك يؤكّد أنَّ التثليث في الذات الإلهيّة الواحدة لا يقبل أيّ تجزئة ولا تفرقة ولا إبتعاد ولا إنفصال ولا تعدّد.

إنَّ الله واحد، والتثليث فيه يُثبِّت هذه الوحدة ويكلّلها، أو بتعبير آخر، إنَّ الثالوث قمّـة الوحدانيـّةيتبع...

الأبّ هَنري بُولاد اليَسُوعيّ