منطق الثالوث(3) «أضواء
ضرورة المحبّة في الله ومقتضياتها
ما دام الله واحدًا، فكيف نفسّر عقيدة الثالوث؟ الثالوث الأقدس لا يُفسَّر إلاَّ من خلال إطار الوحدانيّة، ولكن كيف يمكن أنّ نجمع بين وحدانيّة الله وتثليثه؟ هذه مشكلة ضخمة عانت منها الكنيسة كثيرًا في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها، وتصدّت في أثنائها للكثير من البدع، إذ إنّ الموضوع ليس سهلاً.
لا يجوز أنّ نعتقد بأنَّ أجدادنا المسيحيّين الأوائل قد تقبّلوا هذه الحقيقة بسهولة، كما نجترع رشفة ماء، بل إنّهم بالتفكير الجادّ المضني صاغوا هذه الحقيقة في قانون الإيمان الذي جاء نتيجة مجمع نيقية سنة 325، ثمّ مجمع القسطنطينية الأوّل سنة 381، وأصبح هذا النصّ هو المرجع الأساسيّ لإيماننا.
ولكنْ لم يتمّ ذلك إلاَّ بعد اجتهادٍ شاقٍ ومعاناة طويلة لتحديد بعض المفاهيم الخاصّة بالثالوث. وعلى هذا، فإنّما لا نستغرب أن نجد صعوبة في هذه العقيدة. والآن فلنبدأ في التسلسل المنطقيّ الذي سيجعلنا نتعمّق في الموضوع شيئًا فشيئًا.
الله كامل
كلّنا نوافق على أنَّ الله كامل، وأنَّه، إنْ لم يكن كاملاً، فلا يكون الله. فكلمة "كامل" تعني أنَّ الله يجمع في ذاته كلّ الصفات الحسنة على الإطلاق. إنْ كنت أنا ذكيًا، فهو ذكيّ على الإطلاق، وإنْ كنتُ حكيمًا، فهو حكيمٌ على الإطلاق. وإنْ كنت رحيمًا فإنّه رحيمٌ على الإطلاق. فإنْ كان في العالم محبّة، ومصدر العالم هو الله، يجب إذًا أنْ يمتاز الله بهذه المحبّة على الإطلاق. والخلاصة أنَّ كلّ الصفات الحسنة التي في العالم هي في الله، ولكن على وجه الإطلاق.
الله محبّة
في نظر الفكر المسيحيّ، يلخّص الإعتراف بأنّ الله محبّة كلّ صفات الله التي يُمْكن أنْ نِصفَهُ بها، لأنّ كوْن الله محبّة يفترض أن يكون رحيمًا ورزّاقًا وغفورًا... إلخ.
ولكنّ الإعتراف بأنّ الله محبّة لا ينفصل عن الإعتراف بأنّ الله ثالوث، والإثنان مرتبطان إرتباطًا حتميًا، كما سنراه في ما يلي. ونصل لهذه النتيجة بالإستعانة بالعقل البحت، واضعين طبعًا في الخلفيّة إيماننا وعقيدتنا.
ما هى المحبّة؟
المحبة هي بذل وعطاء. فعندما نقول: " إنَّ الله محبّة "، نعني أنَّ تلك المحبّة تقضي لدى الله بذلاً وعطاءً. ولكن إنْ تساءلنا: بذل وعطاء لِمَن، إفترضنا أنَّ المحبَّة تقتضي ثنائية: حتى يكون هناك محبَّة، يجب أن يكون هناك طرفان: طرف يعطي وطرف يستقبل. يبدو لنا إذًا تناقض ظاهريّ بين كَوْن الله واحدًا وكَوْنه محبّة. ونعود للسؤال: بذل وعطاء لِمَن؟
تظهر هنا عدة اقتراحات أو إحتمالات سنضعها ونناقش كلاً منها:
* أوّلاً: أن يكون الطرف الثاني إلهًا آخر. إنَّ ذلك أمر مرفوض أصلاً، لأنَّ العقل لا يقبل تعدّد الألهة، كما سبق وأوضحنا.
* ثانيًا: إن قلنا: إنّ الله يحبّ نفسه، نُلغي صفة المحبَّة منه، لأنَّ حبّ الذات عكس المحبّة ونقيضها، ولأنَّ المحبَّة تحتّم وجود علاقة عطاء وتبادل ومشاركة.
* ثالثًا: قد يقول قائل: إنَّ الله أفاض من محبّته على الخلق والبشر، فلا داعي إذًا أنْ نفترض داخل إطار الألوهيّة مجالاً آخر للتعبير عن هذه المحبَّة. وعلى هذا الرأي، يمكننا أنْ نعترض للأسباب الآتية:
لماذا يعجز المخلوق عن أن يتيح لله مجالاً كافيًا للتّعبير عن محبّته اللامتناهيّة؟
* 1- لأنّ المخلوق محدود في الإستيعاب والقـبول، إذ إنّ الله، مهما بذل من محبّة وأفاضها على مخلوقاته، لا يستطيع أنْ يفيض علينا كلّ ما لديه من محبّة، فإنَّ للمخلوق طاقة محدودة للأخذ والقبول والإستيعاب. فيكون العطاء محدودًا، لا من حيث المعطي، أي الله، بل من حيث القابل، أي الخليقة والإنسان. وبما أنَّ الله بذلٌ وسخاء مطلقان، فمن الواضح أنّ الخليقة عاجزة عن أن تتيح لله مجالاً كافيًا لتحقيق محبّته اللامحدودة، إذ ليس في طاقة المحدود أن يستوعب اللامحدود. ومهما كثر عدد المخلوقات، تظلّ هذه الحقيقة ثابتة، إذ إنّ المحدود + المحدود لا يمكن أنْ يساوي اللامحدود. والمحبّة الإلهية اللامحدودة لا يمكن أن تعبّر عن ذاتها بطريقة مطلقة من خلال الكائنات المحدودة، أي المخلوقات.
لا يعني هذا أنَّ الله لا يحبّنا، لكنّ كلّ شخص يأخذ من حبّ الله بقدر استيعابه. فلا يمكن لكوب أن يستوعب من الماء أكثر من سعته، مهما صُبّ فيه من ماء. فخلاصة القول هو أنّ المخلوق عاجز تمامًا عن أنْ يتيح لله مجالاً مناسبًا للتعبير عن محبّته اللامحدودة.
* 2- لأنّ الخلق محدود في الزمن أيضًا. الخلق له بداية ونهاية. لم يكن منذ الأزل، بل ظهر في زمن ما وفي مرحلة معيّنة من تاريخ الكون. فأطرح هنا سؤالاً: هل كان الله يتمتّع بصفة المحبّة من قبل وجود الإنسان والكون؟ الجواب طبعًا: "نعم". ولكن مَنْ هذا الطرف الآخر الذي كان الله يحبّه قبل إنشاء العالم؟ فمن الضروري أن يعيش الله محبّته، سواء كان العالم موجودًا أو لم يكن. لذا يستحيل أنْ يمثّل العالم الطرف الآخر للمحبّة الإلهية، لأنَّه محدود في الزمن.
* 3- لأنَّ الله لا يمكن أنْ يتقـيّد بالخلق تقـيّدًا ضروريًّا. لو كان تحقيق الذات الإلهيّة مرتبطًا بالمخلوق ارتباطًا حتميًا، لَمَا كان الله إلهًا. وإنْ كان الله مقيّدًا بالمخلوق حتّى إنّ المخلوق يصبح شرطًا أساسيًا لتحقيق ذاته الإلهيّة وللتعبير عن محبّته، لا يبقى الله إلهًا. الله هو الغنيّ، أي في غنًى عن أي كائن آخر سواه، وهو المكتفي بذاته.
من الواضح ممّا سبق أنّ الله، حتّى يكون الله، يجب أنْ يتّصف بالمحبّة المطلقة، وأنَّ المحبّة تقتضي الثنائيّة، وأنّ الثنائيّة على شكل إله آخر مستحيلة، إذ لا إله إلاَّ الله، وأنّ الثنائيّة على الخليقة والإنسان مستحيلة، لأنّ الإنسان عاجز عن أن يمثّل الطرف الآخر للمحبّة الإلهيّة للأسباب التي عرضناها. إنّنا مضّطرّون إذًا، لعجزنا عن إيجاد الثنائيّة خارج إطار الألوهيّة، إلى البحث عنها داخل إطار الله ذاته، أي في داخل إطار وحدانيّة الجوهر الإلهيّ، لا في خارجه. يتبع...
الأبّ هَنري بُولاد اليَسُوعيّ