منطق الثالوث(1) «أضواء
المقدمة:
موضوع الثالوث الأقدس بالغ الأهمّيّة في الإيمان المسيحيّ. ذلك بأنَّ أكثر الأسئلة وأحرجها في هذا المَيْدان تدور حول الثالوث الأقدس، سواء أكانت من الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا أمّ من التي يطرحها علينا الآخرون.
وعلى طول مراحل حياتنا، تلقيْنا الكثير في دروس التعليم الدينيّ وسمعنا ما هو أكثر في العظات. وترسّخ إيماننا بالثالوث الأقدس في حياتنا على مستوى غير واعٍ في أغلب الأحيان، وقد نمارسه تلقائيًا في حياتنا الروحيّة، لكنّنا نفـاجَأ، وربّما إلى حدّ الفزع، حين نجد أنفسنا عاجزين عن إيجاد ردّ مقنع وعلى مستوى منطقيّ من التفكير.
أسئلة كثيرة قد نُفاجَأ بها: لماذا التثليث ولا الوحدانيّة المجرّدة؟ وما هى الأسس الفكريّة المقنعة فى هـذا الميدان؟ وما هى مصادر إيماننا بالثالوث الأقدس؟ وما هى انعكاسات هـذا الإيمان على ممارستنا، وعلى حياتنا العمليّة وحياتنا الروحيّة؟.
لا يكفي الاعتماد على الكاهن للحصول منه على جواب، أو فى كلّ مرّة نضيق بهذه الأسئلة، فنسرع إليه لاهثين بحثًا عن الراحة من معاناة القلق الناتج تساؤلات من هذا النوع... لا شكّ أنَّ لدى الكاهن أجوبة، ولكن يجب علينا أنْ نكتشف نحن بأنفسنا هذه الأجوبة. حينئذ، وحينئذ فقط، تصير هذه الأجوبة والردود جزءًا حيويًّا من كياننا وحياتنا، يعيش معنا ونعيش معه، ولا يصبح جزءًا منفصلاً عنّا، قد نفقده في أيّة لحظة أو مرحلة من خطوات حياتنا.
هناك أيضًا العديد من القضايا والمشاكل المعاصرة التي تولي اختيار موضوع الثالوث الأقدس أهمّيّة خاصّة. فمن ناحية، قوة التيارات المضادّة للإيمان، ومن ناحية أخرى ضعف التعليم المسيحيّ الذي يُلقّن في المدارس في هذه الأيَّام... وازدادت أعباء الكهنة والرعاة، فمسَّت الحاجة إلى أنْ ينشأ تيّار من العلمانيّين، من أصحاب الفكر الدينيّ المتعمِّق، يتفرّغ لوضع الأساس العقليّ لحياة الشباب الإيمانيّة، ولكلّ مَن يبحث عن أساس فكريّ، منطقيّ، للإيمانيّات المسيحيّة.
ومن ثمّة يتفرَّغ الكهنة لحياة تدبير الكنيسة الروحيّ باعتبارها جماعة المؤمنين. قد لا يكون ذلك بمعنى الفصل بين مهمّتَين أو وظيفتَين، كلتاهما على قدر خطير من الأهمّيّة، بل لإيجاد التكامل بين جانبين هامّين في الحياة المسيحيّة: جانب العقل وجانب الروح. ويُمكننا أنْ نرى صورة من هذا التكامل في حياة الكنيسة الأولى. والأمثلة على ذلك عديدة، وتتجسّد في أولئك الذين تفرّغـوا لمهمّة الدفاع عن الإيمان المسيحيّ وقد بدأوا خارجًا عن رجال الإكليروس.
لهذه الأسباب كلّها، كان اختيار موضوع الثالوث الأقدس في محكمة العقل موضوعًا لإعمال الفكر
عجز العقل عن استيعاب كل الحقائق المختصّة بالثالوث.
موضوعنا الذي سننقاشه الآن هو " الثالوث الأقدس في محكمة العقل ". يحاول الإنسان أنْ يضع الثالوث الأقدس، سرّ الله كلّه، في ميزان عقله. وقد يكون هذا طموحًا، إنْ لم يكن غرورًا وكبرياءً، إذ كيف يستطيع الإنسان المحدود، بعقله المحدود، أنْ يقيِّم ويضع في ميزان عقله سرّ الثالوث الأقدس، الذي هو سرّ الله؟.
ولعلّ بعضنا يذكر قصة القديس أوغسطينس، الفيلسوف الكبير الذي عاش في القرن الخامس الميلادي، وهو من أعظم شخصيّات تاريخ الكنيسة. كان يتمشّى في أحد الأيّام على شاطئ البحر ذهابًا وإيابًا، يتأمّل في الثالوث الأقدس، ويحاول أنْ يحلّ مشاكله، ليرى كيف يمكن أن يكون ثلاثة في واحد، وواحدًا في ثلاثة. وبينما هو كذلك، رأى طفلاً وقد حفر حفرة صغيرة على الشاطئ وراح يملأ هذه الحفرة من ماء البحر بواسطة صدفة صغيرة. إبتسم له أوغسطينس وقال له: ماذا تفعل؟ أجاب : أريد أنْ أضع البحر في هذه الحفرة. قال له أوغسطينس: هذا مستحيل، يا حبيبي، لأنّ الحفرة صغيرة جدًا. فردّ عليه الطفل: كذلك أنت عندما تحاول أنْ تضع الثالوث الأقدس، وهو أعمق الأسرار فى عقلك المحدود. واختفى الطفل من أمام أوغسطينس.
لا أعلم هل هذه القصّة واقعيّة أمّ خياليّة، لكنّ المهم أنَّ الغرض منها واضح، وهو أنَّ الإنسان يجد نفسه عاجزًا، حين يحاول أنْ يضع سرّ الله في عقله المحدود.
أهمّيّة استخدام العـقل في تقبّل الحقائق الإيمانيّة
قد يبدو هذا العنوان متناقضًا مع سالفه، ولكنّ ذلك غير صحيح، إذْ إنَّ الإنسان، عندما يولد في إطار عائلة مسيحيّة، يقبل إيمانًا موروثًا عن أهله، ويقبله بطريقة عمياء، تصلح لعمره الصغير. فإنْ ظلَّ على هذا المستوى - مستوى الإيمان التقليديّ المسلّم به - بعد أن كبر، قد يكون هذا خطأ، إذْ إنَّ الله منحنا ما نسمّيه العقل، ونحن نستخدم هذا العقل لحلّ مسائل الرياضة والعلوم واللغات والتجارة والعمارة وحلّ مشكلات الحياة.
نستخدمه في كلّ المجالات، ولكن، حين نصل إلى المستوى الإيمانيّ، نقول: " قف، لا تستخدم عقلك، إنّ في استخدامه لخطرًا ". لماذا؟ هل هناك تناقض بين الإيمان الذي يأتي من الله، والعقل الذي هو أيضًا من الله؟ هل نعتبر الإنسان الذي يتساءل حول إيمانه مخطئًا؟ أقـول: لا، وليس مسموحًا فقط أن يستخدم العقل في مجال الإيمان والدين، بلّ إنَّ ذلك واجب ضروريّ وحتميّ.
على كلّ إنسان، حين يتعدّى المرحلة الإبتدائيّة، وبالطبع الإعداديّة والثانويّة، أنْ يدخل في حوار بينه وبين إيمانه، لأنَّ هذا العقل هبة من الله، فلا نتركه عقيمًا. حاول أنْ تتعقّل إيمانك، ويجب أنْ يكون هناك تفاعل بين الإيمان والعقل.
العقل ينير الإيمان، والإيمان ينير العقل. وهذا التفاعل مثمر، إذ نتج عنه ما نسمّيه علم اللاهوت. فعلم اللاهوت هو المحاولة التي نستعملها الآن معًا حتى نتعمّق في سرّ من أسرار المسيحيّة الأساسيّة في ضوء العقل، وهذه محاولة لا بدّ منها. لا يمكن أنْ نستمر في ترديد جُمَل محفوظة عن ظهر القلب، حتّى إذا سُئِلنا عن إيماننا، نقول: " هذا هو إيماننا "... " كيف؟... وضّح... " – " لا أعرف، هذا هو إيماني ". هل هذه إجابة كافية؟.
يعتقد بعضهم أنَّ هذا البحث الإيماني واجب على الكاهن فقط. ولكن الكاهن لا يذهب إلى الجامعة، إلى الورشة، إلى المصنع. فعلى العلمانيّ أنْ ينشر الإيمان في كلّ هذه الأوساط التي لا يصل إليها الكاهن. كلّنا رسل، وليس هناك فرق بين الكاهن والعلمانيّ في هذا المجال. علينا جميعًا أنْ نحمل هذا الإيمان إلى الأوساط التي نعيش فيها، في أي مكان. فالاجتهاد في فهم الدين واجب إذًا على كلّ مؤمن. يتبع....
الأبّ هَنري بُولاد اليَسُوعيّ