مسيرة القداسة المسيحية «أضواء
زار قداسة البابا فرنسيس كنيسة المصالحة الخمسينية في كازيرتا حيث التقى بعدد من المؤمنين الإنجيليين على رأسهم القسّ جوفاني ترايتينو وللمناسبة ألقى الأب الأقدس كلمة استهلها بالقول: إن الوصية الأولى التي أعطاها الله لشعبه من خلال أبينا إبراهيم هي: "سرّ أمامي وكن كاملاً" وبعد هذه الوصية انطلق الشعب في مسيرته: أمام الله في بعض الأحيان وأحيانًا أخرى بعيدًا عنه، لكن الرّبّ إله صبور وطويل الأناة وبالتالي فقد كان صبورًا جدًّا مع الشعب الذي يسير.
والمسيحي هو شخص في مسيرة ولا يمكنني أن أفهم مسيحيًّا لا يسير أو بدون مسيرة إذ ينبغي على المسيحي أن يسير لأن المسيحي الذي يرقد يسبب الأذى للكنيسة لأن كل ما لا يسير يرقد ويفسد تمامًا كالمياه التي لا تجري فترقد وتصبح مستنقعًا فاسدًا.
هناك مسيحيون يخلطون بين المسيرة والدوران فيسيرون تائهين في الحياة بدون هدف أو رجاء وغير قادرين على التقدم... وحدها المسيرة أمام الله أكيدة وثابتة لأنه هو الذي ينيرنا ويمنحنا روحه القدوس الذي يقودنا لنسير بشكل جيّد.
لنتأمل بيعقوب حفيد إبراهيم، لقد كان يعيش مع أبنائه بسلام وطمأنينة إلى أن جاء الجفاف إلى تلك الأرض فقال يعقوب لأبنائه العشرة – لأنهم باعوا أخوهم الأصغر – : "إني سمعت أنه يوجد قمح في مصر، أنزلوا إلى هناك واشتروا لنا من هناك لنحيا" (تك 42، 1- 2). فقام هؤلاء وانطلقوا بالمسيرة ولكنهم بدل القمح وجدوا أخاهم وهذا أمر جميل لأنه عندما نسير في حضرة الله نجد الأخوّة، ولكن عندما نتوقف عن المسير لننظر إلى بعضنا البعض تأخذ المسيرة منحى سيئًا وتصبح ثرثرة، وتبدأ الخلافات: "أنا لفلان وأنت لآخر..."
وهكذا أيضًا بدأ الإنقسام في الكنيسة! فالإنقسام ليس من الرّبّ ولا من الرّوح القدس، وإنما هو ثمرة الغيرة والحسد ويأتينا من أبو الحسد وزارع الزؤان من الشيطان الذي يدخل في الجماعات ويقسّمها!
أضاف الأب الأقدس يقول: ما هو عمل الرّوح القدس إذًا؟ الرّوح القدس يصنع "التنوع" في الكنيسة. وهذا ما نقرؤه في الفصل الثاني عشر من الرسالة إلى أهل كورنتس: "الرّوح القدس يصنع التنوع، وهذا التنوع هو غنيٌّ وجميل". لكن الرّوح القدس يصنع الوحدة أيضًا وبالتالي فالكنيسة هي واحدة في تنوّعها. ولكي نقولها بتعبير آخر، هناك عبارة لكاتب إنجيلي أحبّه جدًّا ويتكلم عن "تنوّع الرّوح القدس الذي يصالح". فالرّوح القدس يمنح التنوع في المواهب ويجمعهم بالتناغم! ولذلك يكتب أول لاهوتيي الكنيسة – أي الآباء الأوائل في القرنين الثالث والرابع بعد المسيح – "الرّوح القدس هو التناغم لأنه يصنع هذه الوحدة المتناغمة في التنوّع".
صحيح أننا نعيش في عصر العولمة ولكن علينا أن نتنبّه أن الرّوح القدس لا يوحّد بمعنى المطابقة، وإنما يوحدنا بالتنوع كل في موهبته وفرادته، فلنعمل إذًا لكي يصبح هذا التنوع أكثر تناغمًا ووحدة بفضل الرّوح القدس ولنسر أمام الله ونكن كاملين، ولنسر بحثًا عن القوت الذي نحتاج إليه لنجد إخوتنا! هذه هي مسيرتنا وهذا هو جمال حياتنا المسيحية!
يكتب القديس يوحنا الرّسول في رسالته الأولى (1يو 3/4): "كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله" بل من الشيطان! وهكذا فإنَّ الذي يرفض إعلان السّماء، وينكر حقيقة كون يسوع إبن الله لا ينال الحياة، بل يمكث عليه غضب الله، لذلك على الإنسان المسيحي الذي يحب الله والنّاس، أن يمارس هذه المحبّة بتبشير النّاس أنَّ يسوع هو المسيح ابن الله مخلّص العالم الوحيد.
وبالتالي فهذا هو سرّ تجسّد المسيح: ولا يمكن أن نفهم محبة القريب ومحبة الإخوة ما لم نفهم سرّ التجسد هذا، فأنا أحب أخي لأنه مسيح آخر، إنه جسد المسيح! ونحن الذين نسير في سبيل الوحدة سيساعدنا كثيرًا أن نلمس جسد المسيح وبالتالي علينا أن نذهب إلى الضواحي حيث هناك الكثير من المعوزين والمحتاجين لله... فيسوع المسيح هو الرّبّ وهو الذي يخلّص! وإنما علينا نحن أيضًا أن نذهب على الدوام لنلمس جسد المسيح في إخوتنا، إذ لا يمكننا أن نعلن الإنجيل بطريقة فكرية صرف، صحيح أن الإنجيل حقيقة لكنه أيضًا محبّة! وهذا هو فرح الإنجيل!
خلال مسيرتنا عبر التاريخ هذه غالبًا ما تصرّفنا كإخوة يوسف، عندما فرّقهم الحسد والغيرة، فقد أرادوا قتله أولاً ولكنهم عدلوا وقرروا أن يبيعوه. إنه تاريخ تعيس عاش خلاله البعض حقيقة الإنجيل كمواقف لا تأتي من الرّبّ لا بل سببت أيضًا انقسامات فيما بين الإخوة.
وبالتالي أنا راعي الكاثوليك أطلب المغفرة على ما حصل! أسأل الغفران من أجل هؤلاء الإخوة والأخوات الكاثوليك الذين لم يفهموا وسمحوا للشيطان بأن يجرّبهم وتصرفوا تمامًا كإخوة يوسف!
الحقيقة هي لقاء، لقاء بين أشخاص! والحقيقة لا تُصنع في المختبرات وإنما تُعاش يوميًّا بالبحث عن يسوع لإيجاده. والسرّ الأجمل هو عندما نجده ونكتشف بأنه هو الذي كان يبحث عنّا أولاً وأنه هو الذي وجدنا أولاً. عندها يملؤنا هذا اللقاء بالفرح والاندفاع.
لنتأمل بلقاء التلاميذ الأوائل، أندراوس ويوحنا، عندما سمعا يوحنا المعمدان يعلن: "هوذا حمل الله الذي يحمل خطايا العالم" فقاما وتبعاه للحال، وأقاما معه طيلة النهار. وعندما رجعا إلى البيت أخبرا الجميع مندفعَين: "لقد وجدنا المسيح!" لكن لم يصدقهما الجميع وقالوا: "وهل يخرج من الناصرة شيء صالح؟" لكن يوحنا وأندراوس قد التقياه، وهذا اللقاء هو لقاء محوّل ومنه يأتي كل شيء. هذه هي مسيرة القداسة المسيحية: مسيرة بحث يومية عن يسوع المسيح للقائه والسماح له يوميًّا بأن يجدنا ويلتقينا!
نحن نسير في سبيل الوحدة هذا مع إخوتنا! قد يندهش البعض ويقول: "لقد زار الأب الأقدس مجموعة من الإنجيليين". نعم لقد ذهبت لألتقي بإخوتي الذين جاؤوا إليّ أولاً للقائي في بوينوس آيرس وهكذا بدأت صداقتنا ونما هذا القرب بين رعاة بوينوس آيرس وها هو يتابع اليوم! أشكركم وأسألكم أن تصلّوا من أجلي!
إذاعة الفاتيكان