مسحني لأبشّر الفقراء «أضواء
يسوع هو الرجل المملوء بالروح، هذا هو أصل الحكاية، وهذه هي بداية الأمور كلّها، تلك التي قام لوقا بتقصّيها بدقة وعناية. روح الله يسكن هذا الإنسان، يسوع الناصريّ، فالله حاضر فيه ومن خلاله للبشر. ويقبل يسوع هذه النعمة العظيمة والعجيبة بفرح، ويسلّم حياته لله فيأخذه روح الله ليكون خادمًا للناس.
يتعرّف يسوع إلى هويّته ورسالته من خلال التأمّل في الكتاب المقدّس ويفهم أنّ الله حياة وسلام للبشر، وأنّه يمنحه روحه ليعلن بحياته وكلامه وأفعاله أنّ الله محبّة وأنّه أبو البشر، نبع كلّ أبوّةٍ في السماء وعلى الأرض.
في البدء يعي يسوع بنعمة الروح أنّه الإبن الحبيب، وأنّه المُختار من الله والممسوح بروحه، ويفهم أنّ سكنى الروح هو قلب الإنسان، لأنّه هكذا هو الحبّ. من يحبّ يريد أن يشرك المحبوب في كلّ ما عنده وكلّ ما هو له، ويريد أن يشارك المحبوب واقعه وحياته ومصيره. الله محبّة والمحبّة شركة وعطاء، فخلق الله الإنسان على صورته كمثاله، بروحه القدّوس وكلمته المُحيّية، ووهبه كلّ ما له من سلطة على الخليقة، كالأب الّذي يسلّم كلّ شيء لإبنه المحبوب.
ولكنّ الحبّ يذهب إلى أبعد وأعمق مما يمكن للإنسان أن يتصوّره، فالكلمة تتجسّد وتصير بشرًا وتسكن وسط الناس، تشاركهم حياتهم، أفراحهم واتعابهم، وهذا هو سرّ فرح الله وابتهاجه. فالله يحبّ الإنسان، ويريد أن يكون معه.
في ليلة الميلاد، غنّى الملائكة فرحًا وتسبيحًا لله لأنّ يسوع ولد في مذودٍ للبقر، وأعلنوا مجد الله للرعاة الفقراء الساهرين على رعيتهم (لو2: 8-14)؛ وفي العماد، حين نزل يسوع مع الخطأة في نهر الأردن، وبينما هو يصلّي، إنفتحت السماء، وحلّ الرّوح القدس عليه في صورة جسم وكأنّه حمامة، وجاء صوت من السماء يقول: "أنت إبني الحبيب بك رضيت" (لو3: 21-22).
يسوع، الإبن الوحيد والكلمة المتجسّدة، يظهر في حياة الناس وسط الفقراء وبجانب الخطأة. روح الله يملأه ويجعل قلبه ينبض حبًّا وشفقةً على الإنسان المجروح من ظروف الحياة، من أنانيّة الناس، من خطيئته الشخصيّة. لا يهم سبب الجرح والتشويه، فالحبّ يأتي ليداوي لا ليُدين، والحبّ يُريد الشفاء فيفتح مستقبلاً لمن يشكو واقعه ويتحسّر على ماضيه.
الحبّ هنا والآن مع الفقراء، المأسورين، العميان والمظلومين، فاليوم، يقول يسوع، تمت هذه الآية بمسمع منكم. الآب يهب الإبن كلّ شيء، يمنحه روحه وحياته ومحبّته، والإبن يقدم للآب كلّ ذاته، فيبذل نفسه في سبيل إخوته المحتاجين والمتألّمين.
إنّ حياة الإنسان هي غاية الله ومشيئته، وحياة الله هي نورٌ يشعّ في ظلمة البشر، والظلمة لا تدركه، وهي روح حياة يخترق النفوس المائتة والأجساد الهزيلة، فينعشها ويجدّدها. لم يأتِ يسوع للأصحّاء بل للمرضى، ويشفق قلبه على الجموع البائسة والمشتّتة كغنمٍ لا راعي لها، ولا يهدأ له بال إلّا إذا وجد الخروف الضال وحمله في أحضانه كما تحمل الأم رضيعها وتحميه.
إنّ روح الله يرفّ دائمًا على الأماكن الخاويّة الخاليّة كما في يوم الخلق الأوّل (تك1: 2)، وهو الآن يسكن يسوع، وفيه وبه يداوي كلّ قلب جريح، ويشفي كلّ إنسان يتطلّع للنور والفرح والسلام.
كان من الصعب على أهل الناصرة أن يقبلوا يسوع بن يوسف النجّار، فالناس ينتظرون مسيحًا على صورتهم كمثالهم، يتسلط ويتسيّد على البشر، ويريدون مُخلّصًا يحقّق ملكوته بالقوة والشدّة، فجاء يسوع ممسوحًا من الروح، ضعيفًا ليُعين الضعفاء، بسيطًا ليفهمه الأطفال والبسطاء، وديعًا متواضع القلب ليستقبل ثقيلي الأحمال والهموم.
جاء يسوع مُحرّرًا للقلوب التي جفّت من قلة الحبّ والرحمة، ليخلق بهم ومعهم عالمًا جديدًا يرحم فيه البشر إخوتهم الصغار والفقراء، العميان والمأسورين. نعم، روح الربّ نزل على يسوع، وفيه يسكن ويحيا، يتكلّم ويعمل، ولكنّ الروح يحتاج إلى بشرٍ اليوم يحلّ عليهم ويسكن فيهم كي، مع يسوع، يحققوا هذه الآية من أشعيا: «رُوحُ الرَّبِّ نازل عَلَيَّ، لأنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء، وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم، ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم، وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين، وأُعلِنَ سَنَةَ قبول عِندَ الرَّبّ»
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ