مريم قدوةٌ ثابتة في الحياة الروحيّة «أضواء

 

 

 

شهر أيّار، شهر مخصَّص لإكرام العذراء، فيه تتمحور الصلوات والطلبات حول الأمّ الحنون السماويّة، طالِبين شفاعتَها لنا في حياتنا وعونَها للوصول إلى ما نحن مدعوّون إليه، أي إلى السماء.

مريم مثال لنا في الحياة مع ابنها، قدوة لأولادها في "وادي الدموع". إنّ التأمّل في حياتها، ليس مجرّد أفكار نربطها فقط بالعهد القديم، أي بالنبوءات والتفاسير البيبليّة، فحياتها مدرسةٌ تستمدّ تعليمها وهدف رسالتها من ابنها يسوع وعيشها الدائم معه. فلا فرق بين حياة مريم على الأرض وحياة الإنسان اليوم، لأنّها كانت امرأة يهوديّة عاديّة، عاشت حياةً بشريّة كسائر الناس. فما ميزة مريم؟ ولماذا تُعتبر قدوة لنا في الحياة المسيحيّة؟ وما القاسِم المُشترَك بين حياتها الأرضيّة وحياتنا اليوم؟

للإجابة، نستعرض خمسة نقاط من حياة العذراء الأرضيّة وكيف تُطبَّق في حياتنا اليوم:
أولًا: يخبرنا التقليد الكنسيّ المقدّس أنّ مريم قد قُدِّمت إلى الهيكل وهي في الثالثة من عمرها، وكُرِّست لله من قِبَل والدَيها. أمّا نحن اليوم، فنتكرّس لله مِن خلال معموديّتنا، ونصبح هكذا أبناءً للآب وإخوةً للإبن وهياكل حيّة للرّوح القدُس. تلقّت مريم "تربيتها الدينيّة" على يد مُعلِّمِي الشريعة في الهيكل، ونحن نتعلّم وننمو في التعليم المسيحيّ الذي نتلقّنُه في العائلة أو المدرسة أو الرعيّة ... فتبدأ مسيرة التعرُّف على الله.

ثانيًا: مريم ذُكِرت لأوّل مرّة في العهد الجديد في حدث البشارة (لو1: 26)، حيث استَقبَلَت مشروع الله المُعدّ لها؛ دعوة ضخمة، مرعبة، تفوق الخيال والمنطق البشريّ والقدرة على الإستيعاب. لكن لا يمكننا أن ننسى أنَّ العذراء قد تربّت على تعليم الربّ في العهد القديم، فعرفت ما فعله سابقًا مع سارة امرأة ابراهيم (تك 19) وراحيل (تك 30: 1-22) وحنّة أُمّ صموئيل (1صم1).

فعلاقتها ومعرفتها بالربّ جعلَتاها تدرك أن "لا شيء مستحيل عند الله" (لو1: 37)، فأحبّته وأعلنت استعدادَها لتتميم مشروعِه في حياتها، فوحَّدت إرادتها وحرّيّتَها به معلنةً "ها أنا أمَة للربّ!" (لو 38:1). أمّا اليوم، فلكلّ إنسان مشروع قد أعدّه الله له، يثق به، كي يُساهِم في نَشر ملكوت الربِّ وحبّه على الأرض.

يكلّمنا الله في الصلاة، في الكتاب المقدّس، في الأسرار، في كلّ إنسان يتّقي الربّ. فماذا نجيب؟ أنأخذ موقف الشكّ كزكريّا (لو1: 18) أم موقف مريم التي تحدّت بموقفها المجتمعَ وتقاليدَه والمنطق البشريّ؟ فما الذي يُخيفنا ويُرعبنا لعدم السّير في طريق الربّ المعدّة لنا وتَحدّي المجتمع حاملين الله معنا؟ مريم مثال لكيفيّة توحيد الإرادة الإنسانيّة بالإرادة الإلهيّة، ولكي نصل إلى هذا الإتّحاد، علينا، مثل مريم، أن نثبُت في علاقتنا بالله التي من خلالها نُزيل جدران الخوف والتردُّد ونَلبس درع الشجاعة والقوّة.

ثالثًا: يخبرنا الكتاب المقدّس بأنّ العذراء قد "مضَت مُسرعة" (لو 1: 39) عند أليصابات لتخدمها. مريم لم تكتفِ بقبول مشروع الله لها، بل هي مثال لكيفيّة تطبيق مشيئة الله عبر الخدمة. فخِدمَتُها ليست نابعة من إيديولوجيّات وتيّارات فكريّة وفلسفيّة، بل من حضور الربّ في أحشائها.

فعند وصولها رفعت نشيد الشكر والتعظيم لله معلنة أنّ كلّ شيء هو منه. أمّا نحن، فالحدث نفسه يتكرّر معنا، إذ أنّ المسيحَ "يصبح في أحشائنا" عبر تناول القربان المقدّس، فهل هناك فرق بين المسيح في أحشاء مريم والمسيح في القربان؟ بالطبع لا وإلاّ يكون هناك "مسيحان".

و بما أنّه ليس هناك فرق، بعد القدّاس يبدأ مشهد " الزيارة"، ونذهب مثل مريم، بقوّة الربّ الحالّ فينا، نحوَ الآخَرين في البيت والمدرسة والجامعة ومكان العمل ... لنخدُمَهم ونُنشِد معَهم نشيدَ الشكر لله على عظائمه. هكذا يَظهَرُ الإنسانُ الرسول، مثل مريم، ليُعلِنَ الربَّ ويُعِدَّ له الطريق.

رابعًا: في قانا الجليل، مريم ظلَّت مُنتبهة لكُلِّ تفاصيل العُرس، ظلَّت ساهِرَة تُراقب، وعندما اكتشفَت حدوثَ نقصٍ تضرَّعَت إلى ابنِها. هكذا الإنسان حين يسهر مُراقِبًا حياتَه الروحيّة، تتَّضِح أمامه تفاصيلُها، فيدقّق ويفحص كلّ شيء وعند مُلاحظتِه خلَلاً ما يَركُض إلى يسوع، مثل مريم، طالبًا معونتَه.

فالعذراءُ قدوةٌ لنا في السهر على حياتنا بدِقَّة، لأنّ المشاكل الروحيّة تبدأ بأمورٍ بسيطة كالإهمال في الصلاة، أو عدم ممارسة الأسرار، أو قِلّة التأمّل في الكتاب المقدَّس، وكُلّ ما يبعدنا عن الله. لُجوءُنا إلى الربّ هو تعبيرٌ عن علاقتنا البنويّة به، هو الأب الحاضر والقدير على كلّ شيء.

الأخ إيلي مطر المريمي