محركات الصلاة الثلاثة (3) «أضواء

إذا كان الشكران وقود المحبة، فالكتاب المقدس هو نفحة الروح التي تؤجج نار الحب. يعتبر القديس غريغوريوس الكبير الكتاب المقدس كـ "رسالة حب" يوجهها الله لخليقته، ويدعو البابا القديس المؤمن على قراءة الكتب المقدس بالشغف عينه الذي يقرأ فيه الحبيبة المتيمة رسالة الحبيب.

كلمة الله تساعده على التفكير بمحبة الله وعلى اختبارها ولكن – كما ينصح الأب غاسبارينو – يجب أن نصحح نقيصة شائعة في أسلوب قراءة الكتاب المقدس. يلفت معلم الصلاة الإيطالي أننا "معتادون وللأسف على قراءة كلمة الله من منظار أخلاقي" ويدعو على عكس ذلك إلى قراءة كلمة الله من منظور المحبة. "الكتاب المقدس هو رسالة حب"

ويتوسع غاسبارينو في تقديم وسيلة عملية لقراءة كلمة الله، إذ يدعو إلى قراءة "مثلثة الأبعاد": 

البعد الأول هو القراءة البسيطة المليئة بالإيمان والخضوع والاحترام والانتباه. وينصح هنا بقراءة الكتاب المقدس مع الاستعانة بالملاحظات التي يتضمنها الكتاب المقدس (مثل الملاحظات التفسيرية التي تتضمنها الطبعة الكاثوليكية-اليسوعية على سبيل المثال). فمن الصعب علينا أن نفهم كلمة الله دون مساعدة خبير يبني جسرًا بيننا وبين النص الإلهي الذي يقوم على مسافة زمنية وتاريخية وثقافية لا يمكن تجاهلها.

البعد الثاني: قراءة الكلمة قراءة ثانية والتساؤل: ماذا تعلمنا هذه الصفحة البيبلية عن حب يسوع؟

البعد الثالث: قراءة الكلمة والتساؤل: ماذا تعلمنا هذه الصفحة الكتابية عن حب الآب؟

قراءة الكتاب المقدس تتطلب جهدًا لا يمكننا أن نوفره. لا يمكننا أن نمر بكلمة الله كسواح. فاللآلئ لا تعوم على سطح الماء، ومن أراد حيازتها يجب عليه أن يغوص في العمق.

إن القديسة تريز الطفل يسوع في ريعان شبابها أدركت غنى الكتاب المقدس، وبشكل خاص الأناجيل. وبينما كانت الكتب المعقدة تقود نفسها إلى اليبوسة، كانت تجد في الكتاب المقدس الغذاء المناسب لنفسها: "الإنجيل هو الذي، فوق كل شيء، يغذيني خلال تأملاتي. ففيه أجد كل ما هو ضروري لنفسي الصغيرة فاكتشف فيه دومًا أنوارًا جديدة، ومعاني خفية وسرية"(القديسة تريز الطفل يسوع، قصة نفس، مخطوط أ، ص 83ش).

 المعاني الخفية والسرية ليست خبرات إيزوتيرية أو غريبة، فمكنون الكتاب المقدس هو واضح رغم أنه دائم التجدد: جوهر الكتاب المقدس هو "الله محبة" (1 يو 4، 16). وقد صدق الأب بيار تارديف عندما قال في إحدى عظاته خلال لقاء صلاة وشفاء في شمال لبنان عام 1996: إذا ما أضعنا كل الكتاب المقدس ولم يبق لدينا شيئًا منه في أية مكتبة في العالم، يكفينا أن نذكر آية واحدة هي خلاصة كل الكتاب المقدس: "الله محبة".

الله محبة، وجوهر الحياة المسيحية هو – بحسب القديس الأرثوذكسي العظيم سيرافيم الساروفي – الحصول على الروح القدس. هذا الروح هو محبة الآب والابن، "محبة الله التي أفيضت في قلوبنا" (راجع روم 5، 5)، والذي يقودنا إلى الحقيقة كلها، حقيقة أن الآب يحبنا كما يحب ابنه يسوع (راجع يو 16، 27). من أقام في هذه المحبة، أقام في الله وأقام الله فيه

عيش المحبة في الصلاة

محرك الصلاة الثالث هو "عيش المحبة". من اختبر محبة الله حقًا لا يمكنه أن يبقى لا مباليًا أمام هذه الخبرة. من اختبر حقًا قوة الحب المحوِّلة لا يمكنه إلا أن يعيش الحب برهانًا عن هذا التحول. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف لي أن أعيش المحبة في الصلاة؟ فمن السهل أن ألاحظ إذا كنت أعيش المحبة في حياتي مع الآخرين، ولكن مع الله في الصلاة، كيف لي أن أميز بين الفوران العاطفي وبين الحب الحقيقي؟

جوابًا على هذه الأسئلة، يقول الأب أندريا غاسبارينو: "يصعب أن نحدد ماهية المحبة في الصلاة. ولكن ربما يمكن كل الأمر في شيء بسيط: أن أتعلم تقديم ذاتي لله". ويوضح معلم الصلاة أن على الصلاة الجيدة أن تمر في مراحل نضج ثلاث: 

أولاً: إصلاح الصلاة الشفهية (اللفظية)

ثانيًا: الوصول إلى صلاة الإصغاء.

ثالثًا: التوق إلى صلاة الحب (صلاة القلب)

وعليه، بحسب التقسيم الذي يقدمه غاسبارينو، على الصلاة أن تمر وأن تضم ثلاث أبعاد ومراحل: الكلام (الصلاة اللفظية)، الإصغاء (صلاة الإصغاء)، والتجاوب (صلاة القلب). إن الحديث الفعال عن الصلاة هو حديث يتطلب تطبيقًا عمليًا. لقد بدأنا هذه المقالة بمقاربة شبهنا من خلالها الصلاة بركوب الدراجة. فمن يريد أن يتعلم قيادة الدراجة الهوائية يحتاج إلى بعد التوجيهات الأولية، ولكن حالما يبدأ بالتطبيق يكتشف أن هناك الكثير من الخبرات التي لا تتضمنها التوجيهات لأنه يصعب الحديث عنها، كما يصعب الحديث عن كل الوقائع العميقة التي يعيشها الإنسان في جوهر كيانه وفي علاقاته الأكثر حميمية؛ كما ويكتشف أن الخبرة تعلم أكثر بكثير وتقود الإنسان أبعد بكثير من التوجيهات. ولذا فالمهم في الحديث عن الصلاة هو عيش الصلاة.

الصلاة فن نتعلمه بينما نعيشه. إن أردت أن تتعلم أن تصلي صَلِّ! وإذا رأيت أنك لا تجيد الصلاة، لا تجيد البقاء مع الله فاذكر ما كانت تقوله الأم تريزا من كالكوتا: "إذا أردت أن تصلي بشكل أفضل، صلِّ أكثر".

تطبيق عملي للصلاة: ينصح الأب غاسبارينو بما يلي: كرس نحو نصف ساعة من وقتك للصلاة. اختر المكان المناسب والساعة الفضلى. إركع واجعل جسدك يصلي أيضًا: فهذا يساعدك في صلاتك. بدل أن يكون الجسد عائقًا أمام الصلاة، اجعله شريكًا فعالاً فيها. 

قسّم الوقت إلى ثلاثة أقسام: بقدر ما تنظم صلاتك، تجعلها سهلة ومثمرة.

القسم الأول (عشر دقائق) كرسه للروح القدس الحاضر فيك. اسأل ضميرك واسأل الروح: ما هي آخر نقص ارتكبته؟ ما هي الخطيئة التي تثقل مسيرتي بالأكثر؟ عبّر عن ندامتك للروح القدس. يمكنك أن تصلي هكذا: "أيها الروح القدس، روح الحق، أحلّ الحقيقة في داخلي".

القسم الثاني: وجه انتباهك ليسوع: مرّن نفسك على صلاة الإصغاء. إقرأ مقطعًا صغيرًا من الإنجيل وتوقف عندما تشعر أن هناك كلمة تمس قلبك. يقول القديس اغناطيوس: "ليست وفرة المعرفة هي التي تفيد النفس، بل التذوق الباطني للأمور". إقرأ وقل للرب: "تكلم يا رب، إن عبدك يسمع". تذكر أن الندامة الحقة تحمل التغيير، لذا اطلب إلى يسوع أن يفيض عليك نوره فتعرف كيف تغير سيرتك: "يا رب، ما هي الخطوة الأولى التي يجب أن أقوم بها اليوم نحو توبتي الحقة؟". واتخذ من ثَمَّ مقصدًا واضحًا لليوم.

القسم الثالث: ثم اتجه نحو الآب. التزم الصمت، وحاول أن تكون حاضرًا له وأن تحبه. حاول أن تذكر كل عطاياه في هذا اليوم، وصل هكذًا فقط، مرددًا بهمس متأمل: "شكراً أيها الآب". واذكر أيضًا الهبات العظمى التي أعطاها لك في حياتك، وردد مع القديس فرنسيس الأسيزي: "إلهي وكل ما لي".

ثم اختتم صلاتك بتلاوة صلاة "السلام عليك يا مريم" صلها طالبًا نعمة تذوق الصلاة والثبات في حياة الصلاة.

موقع زينيت