لا تكُن غير مؤمن بل مؤمنًا «أضواء

قام يسوع من بين الأموات لأنّه آمن بمحبّة أبيه أكبر وأعظم من الموت، فقد صارت كلمات الكتاب المقدّس خبزه اليوميّ، وبها تعلّق وعليها رهَن حياته ومصيره. وثِق يسوع بكلماتِ المزمور القائلة بأنّ الله لن يتركه في عالم الأموات ولن يدع قدّوسه يرى فسادًا (مز16: 10)، وأنّ الربّ يجرح ويضمّد، ثم يقيم في  اليوم الثالث (هو6: 1-2).

إلا أنّ كلّ الشواهد كانت تناقض هذا الإيمان، بل وتضحده. فمِن جانب، كان الفريسيّون ورؤساء الكهنة يعدّون المؤامرة بخبث وشراسة، ويجمعون الحجّج الشرعيّة للنيل منه إذ قال عن الله إنّه أبوه (يو5: 18)، وأنّه يستطيع إعادة بناء الهيكل في ثلاثة أيّام (يو3: 20)، فجمعوا شهود الزور وساوَموا يهوذا على تسليمه.

ومن جانب آخر، كانت القوى السياسيّة الحاكمة تخاف على مصالحها الشخصيّة أكثر من الاهتمام بواجبها في إقامة العدل وتحقيق الخير العامّ، وقد أدّى بها جبنها وتخاذلها إلى التواطئ مع رجال الدّين الذين يحرّكون جموع الشعب ويدفعون بها في الاتّجاه الذي يريدونه. وأكثر من ذلك، لم تذكر الخبرة الإنسانيّة على مرّ التاريخ أنّ إنسانًا قام من بين الأموات وصار حيًّا للأبد. ذكر الكتاب المقدّس بعض الأمثلة عن أشخاصٍ عادوا بالفعل من الموت ولكنّهم ماتوا بعد ذلك.

آمَن يسوع، ولكنّ الأمور صارت كما نعرف وكأنّ الله غائب عنه، أمام قدرة الإنسان على الكذب والكراهية والعنف. ظلّ يسوع مؤمنًا وسط الليل الحالك والظُلمة العظيمة، وبين يديّ أبيه أسلَم روحه. فرح الفريسيّون ورؤساء الكهنة، فلقد وُضع يسوع في القبر، ودُحرج حجر كبير على فمه، بل ختموا القبر بختمهم وأقاموا حرسًا عليه (متّى27: 66)، خوفًا من أن يأتي تلاميذ يسوع ويسرقون الجثمان، ثم يدّعون أنّه قام.

وفي صمتِ الزمن، وبدون أيّ شاهد عيان، قام يسوع من بين الأموات، وانتصر على الموت. لم ينتقم من أعدائه، ولم يُظهر ذاته لمَن صلبوه، بل جاء إلى من شاركوه درب الآلام في الإيمان. فرغبة يسوع هي شفاء الإنسان من عمى القلب، ولن يداوي القلب إلا الحبّ، ولا يُقبل الحبّ إلا بحرّيّة، ودليل الحرّيّة هو الإيمان.

استمدّ يسوع قوّة الإيمان من الرّوح القُدس الذي يملأه، وعاش مخلصًا للروح، يسمع صوته كلّ يوم، يتركه يقوده وينير حياته من خلال صلاته، تأمّله في الكتاب المقدّس، لقاءاته مع الناس واستماعه لهم، فهمه لأحداث المجتمع من حوله. وهبة يسوع العظمى لتلاميذه هو الرّوح الذي جعله حيًّا طوال عمره، وهو ما ينفخه عليهم حين يظهر لهم.

يأتي يسوع إلى تلاميذه المجتمعين وكأنّهم في قبر مُغلق بالخوف والحسرة واليأس، ليهبهم روح الحياة والإيمان، روح الفرح والسلام. مَن رهن حياته على الإيمان وقام من بين الأموات هو وحده يستطيع أن يحيي الإيمان في قلوب التلاميذ، ومن غلب الليل لأنّه آمن بنور الله الذي يشرق في الظلمة والظلمة لا تدركه هو وحده يقدر على أن يمنح الفرح والسلام للقلوب الموصدة بالحزن والشكّ، ومن عبَر الخوف والنزاع في بستان الزيتون هو وحده بوسعه أن يهب السلام لتلاميذه، ومن بذل حياته فداءً عن أحبائه فحرّرهم من أسر خطيئتهم وعنفهم هو وحده يمكنه أن يرسلهم ليفكّوا بدورهم من وقعوا تحت نير الخطيئة.

الحياة تنتقل من قلبٍ إلى قلب، والرّوح القدس من إنسانٍ إلى إنسان. تبدأ الحياة من قلب يسوع الحيّ بالإيمان بنِعمة الروح القدس، ومنه إلى تلاميذه، ومنهم إلى كلّ إنسانٍ يتطلّع إلى الحياة والفرح والنور.

وفي مسيرة الحرّيّة هذه، اللقاء شخصيّ وجهًا لوجه مع كلّ واحد، ينطلق من واقعه وتاريخه ليناديه بالإيمان أكبر من كلّ الحسابات الموضوعيّة والتوقّعات الصحيحة، أقوى من كلّ حجر يوصد باب قبر، وأعظم من سواد الليالي وآلامها. يطلب توما أن يرى علامات الموت على يسوع، أثر المسامير في يديه ورجليه، وطعن الحربة في جنبه، أمّا يسوع فيدعوه للدخول في فرح الإيمان، والقلب هو مَن يؤمن بأنّ الحبّ انتصر على البغض، والحياة غلَبت الموت.

لا يقوم الإيمان على الحجّج والبراهين، ولا على الرؤية والعلامات الحسّيّة، بل على الوثوق بأنّ ما لا نراه سيتحقّق (عب11: 1). هكذا كان إيمان يسوع، آمَن بحياة الآب أقوى مِن الموت، ونحن اليوم لا سبيل لنا إلّا بالإيمان بكلمة يسوع التي تعِد بالحياة والحياة بفيض، مهما كانت الظروف وأيًّا كانت الأحداث.

يدعو يسوع توما للإيمان، فهو طريق الحياة، ويهنئنا يسوع على إيماننا، لأنّ به نصير أحياء كما هو حيّ، ونشيّد معه عالمًا ينتصر فيه الحبّ على البغض، والاتفاق على الخلاف، والحقيقة على الكذب، والإيمان على الشكّ، والرجاء على اليأس، والنور على الظلمة، والفرح على الحزن.

الأب نادر ميشيل اليسوعيّ