لا تخافوا «أضواء
كيف لا نخاف والخوف هو الشعور الذي يصاحب كلّ إنسان؟ نخاف من الدنيا والناس ومن أنفسنا، فلا الأحوال السياسيّة من حولنا تدعو للأمل، ولا العلاقات مع الآخرين دائمًا مريحة ومشجّعة، ولا قلوبنا تحيا في رضىً عن الحاضر وثقة بالمستقبل. وحتى مع الله، فالإيمان بمحبّته وحنانه ينقصنا في أيامٍ كثيرة. لماذا إذًا لا نخاف؟ وهل يمكن أن نحيا حقًّا بلا خوف؟
يعرف يسوع قلب الإنسان، ويدرك إلى أيّ درجة يسكنه الخوف والقلق، ويرغب رغبةً عميقة في أن يمنح الإنسان الثقة والسلام. ويسوع يعرف طريقه إلى قلبِ كلّ واحدٍ منّا، فهو موطِنه ومسكِنه، يقرع بابه برفقٍ، فإن سمع أحدهم صوته وفتح، دخل إليه، وتعشى معه (رؤ3: 20).
في سرّ القلب، يتمّ اللقاء العجيب، يهمس الربّ بكلماتِ حبٍّ ومغفرة ورحمة في أُذن مَن يحبّ. وفي الخفية حيث لا يرى أحد، يسمع الإنسان من فم يسوع كلمات عذوبة، تجعله يحبّ حياته وتاريخه، يثق بنفسه وبالآخرين، ينطلق بشجاعة ووداعة في طرق الحياة. وكيف لإنسانٍ أن يخفي هذه النار التي أشعلت قلبه بالفرح والسلام، أو يغطّي على هذا النور الذي أضاء قلبه وفكره؟
إنّ نور الله يشرق في الظلمة والظلمة لا تقوى عليه (يو1: 5)، ومَن يعلن حضور الله الحاني والرحيم هم من تغلّبوا على خوفهم، وتركوا لروح الله أن يسكن قلبهم، وأن تمتزج كلمته بواقعهم وشخصهم، فانفتحت عيونهم على حضور الله الخفيّ والحقيقيّ وسط العالم.
الله القريب من كلّ إنسان، يسير معه في كلّ لحظة من لحظات حياته، يشدّد خطاه ويدعم إختياراته للخير والعدل والصدق، يقوّيه ليستمر في حبّه وقبوله للآخرين، ويشجّعه على التعاون معهم في سبيل بناء عالم أكثر عدلاً وأخوّةً.
إنّ مصير الإنسانيّة هو في يد مَن غلبوا الخوف من الموت لأنّهم يؤمنون بربّ الحياة الذي أقامهم من قبر الشكّ واليأس والتردّد. فالإيمان يعني دائمًا التخلّي عن الضمانات الشخصيّة والإعتماد على حبّ الله الذي يعتني بنا، وبالتالي يمثّل الإيمان نوعًا من الموت عن ركائز الحياة التي نعتقد أنّها كفيلة بإعطائنا الفرح والأمان اللذين نصْبو إليهما.
وكلّنا يعرف أنّ الخوف ينبع من قلقنا على أنفسنا، من عدم ثقتنا بأنّ الحياة ستمنحنا ما نتمنّاه، ومن إدراكنا العميق بأنّ لا شيء يستطيع أن يمنع عنّا الفشل، الشعور بالوحدة، المرور بالمرض، ومواجهة الموت.
وخوفنا الأساسيّ يتأتى من الموت، ولن نتغلّب عليه إلاّ إذا متنا عن أنفسنا لنحيا في مَن مات وقام من أجلنا (2قو5: 15). هذه هي مفارقة حياتنا الإنسانيّة، وهذا هو سرّ عمل الله الخفيّ في قلبنا.
لن نعيش حقًّا إلاّ بقبول الحياة من الله الذي يتكلّم في عمق قلبنا، ومعه وعليه نبني حياتنا، لتكون على مثاله عطاءً فياضًا لا يعرف حدودًا. وعندما تنفتح أعين قلبنا سنفرح بالعصافير الكثيرة التي يقوتها الله وهي لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن (متّى 6: 26)، لأنّنا حينئذ سندرك تمام الإدراك بأنّه يعتني بنا أكثر جدًّا ممّا نتصوّر أو نطلب، وأنّه يحصي شعر رؤوسنا كلّه حتّى أنّ شعرة واحدة لا تسقط بدون علمه.
كلّ حياتنا كريمة وعظيمة في عينيّ الربّ، هو معنا لذا ينزع عنّا كلّ خوف، يحبّنا حبًّا لا يمكننا فهمه أو إدراكه، يجمع شتات حياتنا المبعثرة ليوحّد قلبنا فيه، فنعرف طعم السلام والفرح (أش 43: 4-5). هذا هو ما يهمس به الرّبّ في سرّ قلبنا لنشهد به للعالم والناس من حولنا. "ما من أحد رأى الله، الإبن الأوحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يو1: 18). ويسوع الإبن يتكلّم في قلبنا حتى نخبر بدورنا عن حبّه اللامحدود، كيّ نعلن عن أبيه نبع النور والسلام.
بالحبّ يشفي يسوع قلوبنا من الخوف المتأصّل فيها والمُهَيمن عليها، فلا نخاف من الخوف لأنّ فيه نلتقي الله الذي يأتي برقّة ولطف وعذوبة إلى صميم إنسانيّتنا لينهضنا من براثن القلق والحزن. ولا نخجل من خوفنا لأنّ مع يسوع لا خجل بل كلّ شيء حتى الخطيئة يصبح موضعًا للنعمة والحياة الجديدة فيه. "فالله ما بخل بإبنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كلّ شيء... فمَن يفصلنا عن محبّة المسيح؟" (رو8: 32، 35).
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ