عمل واحد اختارته واختارها: أن يمرّ ملء مجد الله من خلالها «أضواء

 

 

 

 

 

 

مكانة العذراء ليست هامشيّة. ربّما لا يذكرها الكتاب المقدّس كثيرًا، لكنّه يذكرها في اللحظات الحاسمة. في إنجيل يوحنّا لا تُذكر بالأسم. هي "أمّ يسوع" في عرس قانا الجليل (الفصل 2)، وهي"الأمّ" على أقدام المصلوب (الفصل 19). في المرّة الأولى يتعجّب يسوع من كلامها: "ما لي ولكِ يا امرأة، لم تأتِ ساعتي بعد". أيّ ساعة؟ ساعة يسوع هي ساعة الصليب. وكأنّ يسوع في كلماته يؤكّد أنّ دورها لا يظهر إلاّ حين تأتي تلك الساعة.

عند ذاك لا يتعجّب من رؤيتها، بل يقول لها: "يا امرأة، هذا ابنكِ". مَن هذا؟ هو التلميذ الذي كان يسوع يحبّه. هذا التلميذ الذي لم يُذكر اسمه، لكي يبقى في الإنجيل مكانًا فارغًا يملأه القارئ. هذا التلميذ هو مَن وضع رأسه على صدر يسوع.

وراء الكلمات، يُسمَع قلب يسوع. وهذا القارئ هو مَن يستلم من يسوع هذه الكلمات: "هذه أمّك"، لكي يأخذها إلى بيته. الذي يقرأ ويفهم هو الذي يأخذ الأمّ في بيته ليكون ابنها، مولودًا منها لحياة جديدة، فيصير أيضًا الذي "يرى ويشهد" (يو 19: 35).

في إنجيل لوقا هي مثال التلميذ. "طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين أرضعاك" تقول امرأة ليسوع فيجيب: "بل طوبى لِمَن يسمع كلمة الله ويعمل بها." هذه الطوبى هي أيضًا مكان فارغ لِمَن أراد أن يملأه. ونجد مريم مثال مَن استجاب، حتّى إنّ إصغاءها لكلمة الله أعطى لهذه الكلمة جسدها. في إنجيل لوقا هويّة مريم هو ما تقوله أليصابات: "طوبى لِمَن آمنت بأنّ ما قيل لها من الله سيتمّ."

لوقا هو الذي كتب أعمال الرّسل. نهاية"القصّة" هي في حلول الرّوح القدس على التلاميذ في العلّيّة، لكي تبدأ بعدها القصّة من جديد، قصّة الكنيسة. ولكن في بداية القصّة يحلّ الروح نفسه على مريم: "ها إنّ الروح القدس يظلّلك".

وقبل حلول الرّوح على الرّسل، يختبرون القائم من بين الأموات الذي يظهر فيهم بشكل حركة: تلميذا عمّاوس يسرعان إلى لقاء الرّسل، النسوة يسرعن من القبر إلى عند الرّسل، كما مريم بعد البشارة "تسرع" إلى أليصابات وتنشد نشيد الفرح.

وقبل القيامة يعاني التلاميذ من فقدان الرّب ثلاثة أيّام، منذ اعتقاله حتّى قيامته. كذلك تفقد مريم الصبيّ يسوع ثلاثة أيّام وتبحث عنه إلى أن تجده "عند أبي" في الهيكل.

وقبل فقدان الرّبّ نما التلاميذ في معرفة يسوع لأنّهم صحبوه وشاهدوه وتعلّموا منه وحفظوا كلماته، كما كانت مريم "تحفظ كلّ تلك الأمور وتتأمّل فيها في قلبها". 

مريم تعيش مسبقًا ما تعيشه الكنيسة لاحقًا.أتقول فيها العقيدة إنّها مَن حُبل بها بلا دنس؟ هذا ما تقوله الكنيسة في كلّ معمّد: ينال بالمعموديّة ولادة جديدة بلا دنس. أهي مَن قامت إلى حياة الله بالنفس والجسد؟ هذا ما نحن جميعًا موعودون به في اكتمال القيامة. أتُسمّى والدة الإله؟ ألسنا مدعوّين جميعًا لحمل الإله حين نسمع كلمته ونعمل بها؟ تنال مريم مسبقًا ما نناله نحن لاحقًا.

لم تُعرَف زوجة يوسف في أيّام حياتها بصنع المعجزات، ولا بالمواهب الروحيّة، لم يكن لها المعرفة الكاملة ولم تفنِ جسدها في خدمة المحتاجين... كلّ ما نراه في الكنيسة من مظاهر القداسة لا يظهر فيها وهي بين البشر، لأنّ القداسة فيها ليست شكلاً ولا عملاً، إنّما فيها نفهم ما القداسة فعلاً: عمل واحد اختارته واختارها، أن يمرّ ملء مجد الله من خلالها. آخذ هذه العبارة عن قصيدة كتبها في والدة الإله شاعر يسوعيّ من القرن التاسع عشر:

This one work has to do—Let all God’s glory through 

إحتفالنا بأعياد السيّدة إحتفالُ بتدبير الله في شأننا نحن، وتأمُّلنا في الأمّ تأمّل في القداسة التي نحن مدعوّون إليها، لا في الأعمال الخارقة ولا في الحكمة المذهلة، بل في ذلك العمل الوحيد: أن نجعل الله منظورًا، أو بالأحرى: أن ندع الله يظهر فينا. بدون إعاقة عمله، بدون شروط مسبقة، بدون طموحات منافسة...

مكانة الأمّ ليست هامشيّة، لا في الكتاب ولا في التقليد ولا في حياتنا الروحيّة. معها نحيا كلّ لحظات الكنيسة، معها نصغي إلى كلمات الرّبّ، معها نستقبل سيف الكلمة يغلب ظلماتنا ويكشفها، معها ننشد فرح خالقنا.

الأب داني يونس اليسوعيّ