عظة غبطة البطريرك في قداس الشكر «أضواء
"أنا امة الرب، فليكن لي حسب كلمتك"
1. عندما أعلن الملاك جبرائيل لمريم ابنة الناصرة تصميم الله الخلاصي وهو انه بقوة الروح القدس، يولد منها ابن الله، وهي عذراء، أجابت، بفضل ما تميزّت به من ايمان ورجاء ومحبة: "انا أمة الرب، فليكن لي حسب قولك". وهكذا كرّست ذاتها جسداً ونفساً لارادة الله، ووضعت كل قواها ومواهبها وحبّها لخدمة ابن الله المتجسّد لخلاص العالم، وفداء كل انسان.
في 25 آذار 2011، عيد بشارة العذراء كان الاحتفال بتنصيبي بطريركًا، ابًا ورأسًا لكنيستنا المارونية. فالتمست شفاعة امنا مريم العذراء سيدة البشارة التي في يوم عيدها 25 آذار 1940، قبلتُ سرّ المعمودية المقدّس وحملت اسمها. وتأملت كيف ان ابنة الناصرة المجهولة من العالم بأسره، اصبحت، بنعمة سماوية مجانية، "ابنة الآب، وام الابن، وعروسة الروح القدس".
وأمس الاحد 25 تشرين الثاني 2012،الذي اقمنا فيه مع قداسة البابا قداس بداية خدمتي ككردينال في الكنيسة الجامعة، كان تذكار بشارة العذراء مريم، في زمن المجيء الاستعدادي للميلاد، حسب الروزنامة الليتورجية المارونية، وهذا ليس بصدفة، لان كل شيء عند الله يأتي في أوانه وملء زمانه. فبما ان يسوع المسيح، "كلمة الله الذي صار انسانًا، ملؤه النعمة والحق" (يو 1) هو محور التاريخ البشري والتاريخ الخلاصي، وهو ايضًا، كما نقرأ في رؤيا القديس يوحنا الرسول: "الالف والياء، البداية والنهاية" (رؤيا)، يبقى علينا ان نستقرىء علامات الازمنة ومعانيها واستكشاف مقاصد الله الخلاصية.
2. بالعودة الى انجيل البشارة نقرأ: "في الشهر السادس أُرسل جبرائل الملاك من عند الله (لو1: 26). هذا التحديد الزمني مرتبط بالبشارة لزكريا، ويعني ان مسيرة تاريخ الخلاص تتواصل عبر تاريخ البشر. كتب بولس الرسول عنها: "ولمّا بلغ الزمن، أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة، في حكم الشريعة، ليفتدينا فننال منزلة البنين" (غلا4:4). وكتب صاحب الرسالة إلى العبرانيّين: "إنّ الله كلّم الآباء قديماً في الأنبياء مرّات كثيرة، وبأنواع شتّى. وفي آخر هذه الأيّام، كلّمنا بابنه الذي جعله وارثاً لكلّ شيء وبه أنشأ العالمين. هو شعاع مجده وصورة جوهره، وضابط الكلّ بقدرته" (عبرا 1: 1-3).
كل واحد منا، وكل انسان يولد، انما ينتمي الى زمنه، وله موقعه عند الله في مسيرة تاريخ الخلاص. هكذا أقرأ التلازم بين 25 آذار 2011 حيث في عيد بشارة العذراء نصّبني بطريركًا اساقفة سينودس كنيستنا المارونية، وأمس أحد بشارة العذراء من زمن المجيء، ضمّني قداسة البابا بندكتوس السادس عشر الى مجمع كرادلة الكنيسة الجامعة.
3. في هاتين المحطتين كنت اردد في نفسي كلمة العذراء المريم، سلطانة الرسل: "انا أمة الرب، فليكن لي حسب قولك"،واقول: "هاءانذا". في الواقع كان شعاري يوم رسامتي الكهنوتية في 3 ايلول 1967، كلمة الرب يسوع: "هاءانذا آتٍ لأصنع مشيئتك يا الله" (عبر). وآليت على نفسي، في مسيرة حياتي أن اكون،من جهة، منفتحًا دائمًا على قبول كلمة الله كيفما اتت، ومستعداً لأقول "نعم" مثلما قالتها مريم بذات الايمان والرجاء والحب في حلو البشارة في الناصرة، وفي مرارة موت ابنها على الصليب؛ وان اكون، من جهة ثانية، في حياتي اليومية، بشارة،خبراً مفرحاً قولاً وعملاً، للذين اعيش معهم وللذين التقيهم.
في هذه الاطر يندرج شعار خدمتي البطريركية الذي جددته امس لخدمتي الكردينالية: شركة ومحبة.وهو شعار يتّخذ دفعه من الارشاد الرسولي الذي وقّعه الاب الاقدس البابا بندكتوس السادس عشر في لبنان وسلّمنا اياه رسميًا أثناء زيارته لوطننا الحبيب في ايلول الماضي، وعنوانه: "الكنيسة في الشرق الاوسط، شركة وشهادة"، لكونه يرسم لنا الطريق للسير بشعب لبنان وشعوب بلدان الشرق الاوسط، الذين يعيشون آلام النزاعات والعنف والحرب والتباعد والتنافر، الى شركة الاتحاد بالله عموديًا، والى شركة الوحدة بين جميع الناس افقيًا، حيث المحبة هي الدافع الى الشركة ببعديها، وهي الرباط الذي يحفظها ويشددها. مريم العذراء هي مثال هذه الشركة وحاميتها فينا وفي الكنيسة.
4. الله الخالق هو نفسه سيّد التاريخ البشري وسيّد تاريخ الخلاص. ولذلك لم ينسَ أبداً تاريخ الجنس البشري، بل أحاطه بعناية مستمرّة ليقدّم له الخلاص، من آدم إلى ابراهيم وموسى فإلى الأنبياء والآباء وصولاً إلى التجسّد والفداء والتدبير. فأرسل ابنه الازلي الوحيد، كلمته الأبدية، التي تنير كلّ الناس ليتمّم عمل الخلاص بموته وقيامته، ويكشف وجه الله الآب، بحيث أنّ من يراه يرى الآب (يو 14: 9)، ويعطي الروح القدس روح الحقّ: نوراً يهدي، ونعمة تشفي وتقدّس، وحضوراً الهيًا يحرّرنا من ظلمة الخطيئة والموت، ويقيمنا للحياة الجديدة. هذا هو تصميم الله الخلاصي الذي أقامه بالمسيح عهداً جديداً ونهائيّاً لا ينتهي، ولا يُنتظر من بعده أي وحي عمومي آخر، قبل ظهور ربّنا يسوع المسيح، ملكًا كونيًا ممجدًا (القرار المجمعي في الوحي الإلهي، 3-4).
5. في عظة أمس الاحد، وكان في روزنامة الطقس اللاتيني الروماني عيد المسيح الملك، كشف قداسة البابا معنى ملوكية المسيح، وادرج فيها الاحتفال بانضمام الكرادلة الستة الى مجمع الكرادلة، وكشف معنى خدمتهم الجديدة، وقال:
كشف الرب يسوع عن ملوكيته ومعنى مملكته، امام بيلاطس، وقد سُلّم اليه ليُحاكم ويُصلب بتهمة انه "ملك اليهود". فأكد، بجوابه على سؤال بيلاطس، انه ملك، وان ملوكيته ليست سلطانًا عالميًا بل هي محبة تخدم،وان "مملكته ليست من هذا العالم" (يو 33:18-36).
لم يكن عند يسوع اي طموح سياسي، فمملكته المعروفة بملكوت الله،او الكنيسة، هي من نوع آخر، ولا ترتكز على السلاح والعنف، بل على الحقيقة والمحبة.
اما الحقيقة فأعرب عنها في قوله لبيلاطس: "نعم، انا ملك. ولهذا ولدت وأتيت الى العالم، لكي اشهد للحقيقة. فمن كان من الحقيقة، يسمع صوتي" (يو 37:18). نعم اتى ليشهد لحقيقة الهِ هو المحبة (ا يو 4: 8 و 16)، ويريد ان يبني في العالم مملكة العدالة والحب والسلام.
واما المحبة فسيكشفها، بعد الحكم عليه بالصلب، في فعل الحب الاسمى، إذ يقدم ذاته ذبيحة فداءِ عن خطايا الجنس البشري على الصليب، الذي نصبه عرشاً لملوكيته، وعرش كنيسته.
6. وعندما نربط بين عظتي قداسة البابا بندكتوس، في كل من رتبة منح الكردينالية وقداس بداية خدمتها، نجد مفهوم طبيعة الكردينالية ورسالتها في الكنيسة. ففي عظة امس الاحد ختم الاب الاقدس:
"اليكم، ايها الاخوة الكرادلة، تُسلّم هذه المسؤولية الملتزمة: ان تشهدوا لملكوت الله، للحقيقة. ما يعني ان تُظهروا دائماً أولوية الله، وارادته بوجه مصالح العالم وقواته. كونوا مقتدين بيسوع الذي، امام بيلاطس، وفي وضع التحقير والاذلال، كشف مجده: "مجد الحب حتى النهاية، ببذل الذات عن الاحباء" .
وفي عظة قبل امس السبت، أعطى قداسة البابا مفهوم شارات الكردينالية: الدرجة بحدّ ذاتها هي شمولية الخدمة في الكنيسة الى جانب الحبر الاعظم، راعي الكنيسة الجامعة. الوعد هو القسم بأن " أكون، الآن ودائماً وطالما أحيا اميناً للمسيح وللكنيسة، ومطيعاً باستمرار للكنيسة المقدسة الرسولية ". الطابية الحمراء للتذكير بأن اكون مستعداً للتصرف بشجاعة، في رسالة خدمة الحقيقة ونشر المحبة، حتى سفك الدماء، من اجل تعزيز الايمان المسيحي واحلال السلام والطمأنينة. الخاتم، الذي يحمل نجمة العذراء مريم ورسمَي الرسولين الشاهدين والشهيدين بطرس وبولس، هو للتذكير بإذكاء المحبة للمسيح وللكنيسة مثلهما.
وفي المقابلة العامة صباح اليوم، عاد الاب الاقدس فجدد تشجيع المسيحيين في لبنان والشرق الاوسط، من خلال كردينالية البطريرك، على تطبيق الارشاد الرسولي: " الكنيسة في الشرق الاوسط"، وعيش ايمانهم بحرية. وكرر الدعوة لاحلال السلام في المنطقة، وهو سلام لن يكون فعليًا ما لم يتأسس على الاحترام الصادق للآخر.
7. اننا نحتفل بذبيحة الشكر معكم، يا نيافة الكردينالLeonardo Sandri رئيس مجمع الكنائس الشرقية، وانتم تحتفلون معنا بالذكرى السنوية الخامسة لكرديناليتكم، ومع اخواني السادة المطارنة، ممثلي بطاركة كنائسنا الشرقية، والاساقفة الموارنة اعضاء سينودس كنيستنا المقدس، ومع حضرات الرؤساء العامين والرئيسات العامات، والكهنة والرهبان والراهبات، ومعكم يا صاحب السعادة سفير لبنان لدى الكرسي الرسولي ومعاونيكم، وسعادة القائم بأعمال سفارتنا اللبنانية لدى الدولة الايطالية ومعاونيكم، وسعادة السفير الجديد المعيّن لديها، ومعكم ويا اصحاب المعالي الوزراء والسادة النواب، ويا ايتها الوجوه الكريمة، التي تمثل العائلة اللبنانية بكل طوائفها ومكوّناتها الرسمية والسياسية والحزبية، ومعكم ايها الاهل وابناء حملايا وجيرانها.
انني اشكركم من صميم القلب على حضوركم واحاطتكم وعلى البهجة التي زرعتموها في القلوب. وأعرب عن شكري الكبير وامتناني لجميع وسائل الاعلام، صحافة واذاعة وتلفزيون، لنقلهم وقائع الاحتفالات في هذه الايام الثلاثة. فأشركتم الجميع في لبنان والشرق والعالم في الفرحة والصلاة.
نسأل الله، بشفاعة امنا مريم العذراء سيدة البشارة وسيدة لبنان وابينا القديس مارون ومار يوحنا مارون وجميع القديسين، ان يكافئكم جميعاً بفيض من نعمه وخيراته، وان ينعم على وطننا العزيز لبنان وبلدان الشرق الاوسط بالسلام والاستقرار، وان يبارك خدمتي البطريركية والكردينالية بموآزرتكم، لمجد الله وخير الكنيسة وكل انسان.
ومعاً نرفع نشيد التسبيح والحمد للآب والابن والروح القدس. آمين.
البطريرك بشارة الراعي