طـائفتـي لبنـان والمتألّمـون. الطوباويّ أبونا يعقوب، رسول الرحمة «أضواء
صلاته:
"يا سيّدي يسوع،
خذ لساني: إجعلْه ينطقُ بما تشاء وتُريد، واجعل سكوتي كلامًا معكَ!
خذ أذنيّ: إجعلْهُما تُصغيانِ إلى صوتِ الواجب، وإلى صوتِكَ وحدَكَ يا يسوع!
خذ عينيّ: إجعلْهما تشخَصانِ إلى رؤيتِك في أيِّ مُحيًّا كان، وأيِّ شغلٍ كان!
خذ يديّ ورجليّ: إمنحْهما الرشاقة، وخصِّصْهُما لخدمتِك، ولْتُنفِّذا كلَّ رَغَباتِكَ!
خذ فكري: أَنِرْهُ بنورِكَ الساطع!
خذ قلبي: إجعلْهُ عرشًا لحبِّك وراحتِكَ!".
طفولته وشبابه
في الأوّل من شباط سنة 1875، غمرت الفرحة قلبَ بطرس وشمس زوجته بولادة ابنهما الثالث خليل. قَبِل سرّ العماد بعد عشرين يومًا من ولادته، وترعرع في كنف العائلة. تنقّل في مدارس بلدته غزير، ودخل بعد ذلك معهد الحكمة - بيروت.
سافر إلى الإسكندريّة في مصر حيث علّم اللغة العربيّة في معهد القدّيس مرقس طيلة سنة كاملة وهناك تفتّحت براعم دعوته لعلامات وضعها الله في حياته.
رجع إلى لبنان ودخل الإبتداء لدى الرهبان الكبّوشيّين في دير مار أنطونيوس البادوانيّ (خاشبو - غزير) متّخذاً اسم يعقوب، وبانيًا مع الربّ العهد الآتي: لقد دخلت حيًّا، ولن أخرج إلاّ ميتًا.
كهنوته ورسالته
- سيمَ الأخ يعقوب كاهنًا في الأوّل من تشرين الثاني 1901، واحتفل بقدّاسه الأوّل في بلدته، وسط ابتهاج عائلته وأهالي غزير وكلّ الجوار.
- عُيّن سنة 1905 مديرًا لمدارس الآباء الكبّوشيّين في لبنان؛ فاستحدث فكرة إنشاء مدارس صغيرة ناهز عددها على 230 مدرسة.
- كان أبونا يعقوب موهوبًا في تنظيم رحلات الحجّ والزيّاحات والمناولات الأولى، مردّدًا: إزرعوا قربانًا، تحصدوا قدّيسين. من مواهبه إتقان التبشير والإرشاد. وكان يُدعى للوعظ في سوريا، والعراق، وفلسطين، وغيرها.
- أسّس رهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين التي انتشرت في كلّ لبنان.
- أصدر سنة 1913 مجلّة شهريّة تحت إسم صديق العائلة، وهو مدرك لِما للإعلام من أهمّيّة في حمل الرسالة في كلّ زمان ومكان.
غادر الآباء الكبّوشيّون الفرنسيّون لبنان بسبب الحرب العالميّة الأولى سنة 1914، وأوكلوا إلى أبونا يعقوب مسؤوليّة الرسالة.
لم تمنعه أعباؤه الجديدة هذه من الاهتمام برهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين، وتوزيع الخبز على الجائعين، ودفن الموتى.
رافقته العناية الإلهيّة، فنجا في الحرب العالميّة الأولى مرّات عدّة من حبل المشنقة، والسجن، والاعتقال.
وطنه
لبنان أرض مقدّسة: تغنّى به الكتاب المقدّس، وزاره المسيح أكثر من مرّة. فيه حلّ الرسل، شهود القيامة، وعلى ترابه جثا بولس الرسول ليصلّي مع الجماعة المسيحيّة الأولى على شاطئ صيدا وصور.
لبنان وطن القدّيسين: فيه وادي قاديشا، وقد ضاق بالشهداء والمعترفين والبابوات. وفي زمننا هذا، ملأت العالم عجائب شربل ورفقا ونعمة الله.
لبنان رسالة للعالم: يُطلّ منه أبونا يعقوب الحدّاد، الراهب الكبّوشيّ الذي عاش حياة القداسة على خطى القدّيس فرنسيس الأسّيزي، فكان حاضرًا في كلّ الميادين، يداوي البؤس النفسيّ والجسديّ؛ وقد أسّس جمعيّة راهبات الصليب لتحمل شعلة الخدمة الرسوليّة. أمضى أبونا يعقوب عمره مبشّرًا، مصلّيًا، رسولاً للرحمة والرجاء. إنّه طوباويّ الألفيّة الثالثة!
الصليب على هضاب لبنان
شغلته فكرة رفْع صليب كبير على هضبة من هضاب لبنان، لتصبح مركزًا لتجمّع رهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين، ومحجّةً للصلاة عن نفوس الذين قضوا خلال الحرب، ومن أجل مَن تغرّبوا بعيدًا عن وطنهم. فاختار هضبة في جلّ الديب لتشييد كنيسة على اسم سيّدة البحر سنة 1921، وقد رفع الصليب عاليًا، مطلاًّ على الشاطئ. كذلك رفع صليبًا مماثلاً على هضبة في دير القمر.
دُعي مرّةً إلى سماع اعتراف كاهن مريض مهمَل في أحد المستشفيات، فصُدم بما رآه من إهمال وعدم اهتمام. فأخذه إلى سيّدة البحر، ومن ثمّ بدأ الأساقفة يرسلون إليه كهنة آخرين ومسنّين ومرضى من مختلف العاهات يستلزمون مزيدًا من الاهتمام والتكرّس والتفاني، فأسّس جمعيّة راهبات الصليب ليحقّق بواسطتها حضور الصليب الحيّ حاضنًا المعوَّقين والمهمَّشين.
جمعيّة راهبات الصليب
تحقيقًا لِمَا كان يردّد باستمرار: طائفتي لبنان والمتألّمون، أسّس أبونا يعقوب الجمعيّة سنة 1930، وجعل من أعمال الرحمة طابعها المميّز، خصوصًا لجهة:
- إيواء الكهنة العاجزين عن متابعة رسالتهم بسبب مرض أو شيخوخة.
- العناية بالبؤساء والعميان والمقعدين والمختلّين والعجزة وحتّى المرضى المزمنين الذين تخلّت عنهم عائلاتهم والمستشفيات.
- العناية بالأيتام بنين وبنات، وتربيتهم.
- وأخيرًا، عند الاقتضاء، الرسالة بالمدارس في الأماكن التي تقيم فيها الأخوات ولا وجود فيها لجمعيّة أخرى تؤمّن التعليم.
مؤسّسات أبونا يعقوب
- مدرسة القدّيس فرنسيس - جلّ الديب (1919)، المعروفة اليوم باسم ﭬال ﭘار جاك - بقنّايا.
- مستشفى الصليب للأمراض العقليّة والنفسيّة - جلّ الديب (1926)
- مستشفى راهبات الصليب - دير القمر (1933)، للفتيات المعوَّقات.
- دير سيّدة البير - بقنّايا (1941)، مركز للرياضات الروحيّة والمؤتمرات، ويضمّ مقرّ الرئاسة العامّة والطالبيّة والابتداء.
- مستشفى السيّدة - انطلياس (1946)، للأمراض المزمنة.
- مستشفى مار يوسف - الدورة (1948)، مركز ريمون وعايدة نجّار الطبيّ (2003)، للصحّة العامّة.
- مدرسة راهبات الصليب - برمّانا (1950)، للفتيات اليتيمات والحالات الاجتماعيّة. - دار المسيح الملك - ذوق مصبح (1950)، للكهنة المرضى والمسنّين.
مؤلّفاته
ألّف أبونا يعقوب ولحّن وترجم ترانيم شعبيّة عدّة، وترك أكثر من 8000 صفحة مخطوطة بين مذكّرات، وكتب دينيّة، وروايات وإرشاد، وعظات، في مختلف المواضيع الدينيّة والإجتماعيّة.
وفاته
في 26 حزيران 1954، عند الساعة الثالثة من بعد الظهر، توفّاه الله وشفتاه تتمتمان:" يا صليب الربّ، يا حبيب القلب". وما إن أعلنت وسائل الإعلام نبأ وفاته، حتّى تدفّق الناس بالألوف إلى دير الصليب. وقال فيه آنذاك السفير البابويّ المونسنيور جوزف بلترامي: إنّه أعظم رجل أعطاه لبنان في أيّامنا.
الأعجوبة
حدثَت الأعجوبة مع السيدة مريم قطّان من مغدوشة، المُصابة بنوع من السرطان الخبيث أجمع الأطباء أنّ المصابين به يموتون به حتماً في غضون ستة أشهر . ولقد عمد إبن أخيها السيد جورج قطان المقيم في كندا الى تلاوة تساعية صلاة طلباً لشفائها ، فنالت الشفاء المذهل السريع المستمر بشهادة مجموعة أطباء إختصاصيين في لبنان وإيطاليا.
مراحل دعوى تطويب أبونا يعقوب
- الدعوى الأسقفيّة: افتُتحت سنة 1960؛ تأسّست بموجبها محكمة كنسيّة استمعت إلى الشهود وتفحّصت الوثائق والكتابات، واختُتمت سنة 1964.
- الدعوى الحبريّة: افتُتحت سنة 1979؛ حيث استمعت المحكمة إلى شهود جدد مع وثائق إضافيّة، واختُتمت سنة 1981.
- سنة 1992، أعلن قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني أبونا يعقوب مكرّمًا. وفي 22 حزيران 2008، أعلنه الكردينال خوسيه سارايـﭭـا مارتينس باسم قداسة البابا بنديكتس السادس عشر، طوباويًّا في لبنان، للمرّة الأولى خارج حاضرة الـﭭـاتيكان، في احتفال دينيّ وشعبيّ كبير جرى في وسط بيروت.
خاتمة بداية
عارٌ علينا أن نرتاح بينما أهل العالم يتعبون. البارحة واليوم وأبدًا، أبونا يعقوب هو هو، كما في حياته، لا يعرف للراحة طعمًا، بل هو حاضر مع راهباته في مؤسّساته، ومع العاملين والمضحّين والمحسنين، والمرضى والمتألّمين في لبنان والعالم، مع كلّ المتعبين.
إنّه حاضرٌ، بقوّة الروح القدس، في جمعيّته ليجدّدها فتتابع احتضان الإنسانيّة المعذبة بإيمان ورجاء ومحبّة لا حدّ لها، تتلمّس وجه المسيح في وجوه الإخوة والأخوات المعذبين والمعذبات. إنّه حاضرٌ معنا ليشركنا في حضور الربّ القائم من الموت، في بهاء الفداء والخلاص، وليعدّنا شعبًا جديدًا مقدَّسًا في بدايةٍ لا نهاية لها.
موقع عيلة أبونا يعقوب